يروي الكاتب محمد ديبو في كتابه "كمن يشهد موته" (بيت المواطن، 2014) تجربة اعتقاله لسبعة وعشرين يوماً في أقبية الأمن السورية، متخذاً من الموت جوهراً مفصلياً في عملية السرد لتفاصيل الاعتقال. فالموت في هذه السيّرة يكاد يكون الثيمة الأساسية لفصول الكتاب.
يتحدث ديبو في بداية الكتاب عن تشابه الأسماء بينه وبين الشاب محمد ديبو الدوماني الذي قتل أثناء استهداف النظام لمدينة دوما بقذائف الهاون، وكيف بدأ أصدقاؤه بالاتصال به لمعرفة إن كان الخبر كاذباً أو صحيحاً. وهو ما يحيله إلى التساؤل إن كان ثمة خبر كاذب منشور على الفيسبوك. من هذا التساؤل يدخل الكاتب إلى سرديات المعتقل وتفاصيله اليومية، وجدلية الموت الذي يعيشه السوريون بكافة انتماءاتهم السياسية في سوريا اليوم.
فكرة الموت جعلت ديبو يعيد تمحيصَها وقراءة دوامته التي تحاصر البلد وأبناءه، فهو لا يخفي داخل سيرته انتماءه إلى التيار السلمي في سوريا، ورفضه للعنف والتسليح الذي حصل. كما يطرح في سردياته تساؤلاً حول الفجوة التي بدأت بتغيير معالم الانتفاضة السورية.
اعتقل ديبو في 19 آذار/ مارس 2011. وكان له تجربة في عام 2008 بسبب نشر "دار الساقي" كتابه "خطأ انتخابي"، إلا أنها لم تكن سوى استدعاء لأحد الأفرع الأمنية، على عكس هذه المرّة التي جرى فيها اعتقاله في مدينة طرطوس، قبل نقله بعد أيام إلى مفرزة المخابرات الجوية في مطار المزة في دمشق.
ورغم أن اعتقاله كان بسبب الانتفاضة السورية التي اشتعلت، إلا أنه لم يتعرض للتعذيب قياساً بما حصل لاحقاً في أفرع الأمن من عمليات تصفية جسدية. ففي تلك الفترة كان النظام بحاجة إلى تهدئة الشارع وامتصاص المظاهرات التي كانت تخرج ضده.
يروي صاحب مجموعة "لو يخون الصديق" تفاصيل الاعتقال في دمشق ضمن لغة متوازنة، متحدثاً عن أدق التفاصيل، محاولاً إيصال الأحداث التي حصلت له دون تزييف أو مبالغة، بدءاً من المخبر الذي أوجده الفرع داخل الزنزانة من أجل معرفة توجهات المعتقلين ومدى انخراطهم في الحِراك، وكيفية اكتشافه وإيصال المعلومات وتلفيقها إليه ليظن أنها صحيحة.
ثم يأخذنا إلى حياة السجّانين، متحدثاً عن السجّان المتعاطف مع المعتقلين، وعن السجّان الذي توّحد مع الأفرع الأمنية وأصبح متماهياً معها إلى درجة أن ضربه للمعتقلين بشكلٍ قاسٍ أمام الضباط لم يكن سوى نوعٍ من أنواع الولاء المطلق الذي كان يكنّه هؤلاء العناصر للنظام، على عكس أولئكَ الذين كانوا يحاولون أن يظهروا العطف على المعتقلين عندما تسنح لهم الفرصة: "لا أزال حتى اللحظة أشعر بنشوة الإنساني المشترك بيني وبينهم، إذ أشعر أن ثمة خيطاً يربطنا معاً، معتقلين وسجانين، ينبغي البحث عنه جيداً للقبض عليه وتوجيهه ضد الطغاة الكبار"، إذ يبدو ضمن هذه الفجوة الكبيرة خيطاً لم يستطع أحد اكتشافه، أو التطرق إليه.
كذلك نجد جرس بافلوف ونظريته حاضرة في نصوص "ديبو" عندما يتكلم عن صوت الأجراس القادمة من خارج الزنزانة: "صوتان للرنين كانا يحكمان حياتنا في المعتقل: الأول ناعم كصوت قاتلة محترفة تتقن العمل بصمت، والثاني فج كعاهرة تعلن قبل وصولها إليك أنها ستقتلك. الأول: إيذان بمولود جديد يضاف إلينا! الثاني: بدء رحلة عذاب قد تنتهي بمفقود تحت التعذيب".
بين النثري والسردي، الوجودي والعدمي، يسرد ديبو تفاصيله تجربة اعتقاله، محاولاً أن يوثق جزءاً بسيطاً من قصص سوريا التي تحولت إلى رواية كبيرة، وربما تكون هذه النصوص بعض أجزائها التي ما زالت تكتب، رغم الخوف من فكرة الكتابة بشكلٍ عام: "الحكاية تُروى/ الرواية تُقرأ/ أما الاعتقال فلا يُروي ولا يُقرأ ولا يُكتب/ كل كتابة تقزيم وشرح لتجربة لا تُشرح ولا تُروى/ تجربة لا بطولة فيها سوى الخوف".