عمّي محفوظ.. يحرس ألق الحكاية الشعبية في الجزائر

18 يونيو 2016
سرّه أنّه يقدّم حكاياته بلغة يفهمها الجميع (العربي الجديد)
+ الخط -
"الحكاية الشعبية عكس المسرح. هي ليست للفرجة بل للعبرة، هي في حكم القبلة التي نزرعها على جبين الطفل كي ينام محاطاً بقيم الحب والحنان". هذا ما يؤمن به عمّي محفوظ.
تعدّ الحكاية في الفضاء الجزائري أهمّ التعابير الشعبية التي لعبت دوراً حاسماً في الحفاظ على هوية الجزائريين الاجتماعية في مواجهتهم سياسيات طمسها التي اعتمدتها مؤسسات الاحتلال الفرنسي (1832 ـ 1962)، فضمّنوها عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم ونظرتهم إلى الموت والحياة والأرض والإنسان. ولطالما حظي الحكواتي باهتمام كبير في الأعراس والأسواق الأسبوعية، فيما تتهاطل عليه الإكراميات في كلّ بقعة يزورها، فهو كان يتنقل من ساحة إلى ساحة ومن قرية إلى قرية ومن سوق إلى سوق. كان يسمّى "القوّال" في الأوساط الشعبية، بحسب المسرحي مختار حسين، "وكان يخاطب الناس بلغتهم وبالطريقة التي يفهمونها ويسرد حكايات قد يعرفونها. لكنّ طريقته التي تحمل الروح المسرحية، تجعلهم يتفاعلون معها كأنّهم يسمعونها للمرة الأولى. وعادة ما كان الحكواتي الجزائري خلال فترة الاحتلال الفرنسي يظهر بمظهر الدرويش، حتى لا تتفطن فرنسا إلى الرسائل الثورية والتحريضية التي كان يبثها من خلال حكاياته".

من هذه الخلفية، طلع الحكواتي محفوظ فقير (1958) في مدينة الأخضرية وأصبح واحداً من متصدري مجالس الحكاية الشعبية في المشهد الجزائري، برصيد يصل إلى 1500 حكاية ذات توجهات مختلفة، لكنها تشترك في تلخيص مفهوم الجزائريين للعيش والموت وكيفية مواجهة الشر بالخير حتى يكون الإنسان صالحاً في النسيج العام لمجتمعه.

عمّي محفوظ، هكذا يناديه الجزائريون، تخرّج من معهد المعلمين في مدينة تيزي وزو (شرق) وانخرط في سلك التعليم على مدى خمسة أعوام، الأمر الذي وضعه أمام أسئلة تربوية ملحة. "عادة ما انشغل الجزائريون وهم يتعاطون مع منظومتهم التربوية، بسؤال: ماذا نربّي؟ أي سؤال المحتوى. لكّنهم غفلوا عن سؤال: بماذا نربي؟ أي سؤال المنهاج. بالتالي، وقعوا في الفشل التربوي الذي اعترفت به الوزارة الوصية نفسها. وهذا السؤال هو ما أحالني إلى اعتناق فنّ الحكاية".
يشبّه عمّي محفوظ القيم الاجتماعية النبيلة التي يتشرّبها السامع للحكاية، بالأدوية التي نذيبها في الماء للمريض من غير أن يتفطن لها. "النفس البشرية في العادة تتعالى على التوجيه والنصح المباشرَين، لأنّها ترى فيهما مصادرة لنضجها، لكنّها تتلقاهما بمحبّة إذا قُدّما لها كحكاية، لأنها تتعامل مع القيم المزروعة في الحكاية على أنّها ملكها الشخصي".



من هنا، فإنّ الحكي عند عمّي محفوظ ليس في المناسبات فحسب، يلجأ إليه حين يُطلب منه، بل هو "نظرة إلى الوجود وخيار دائم". لذلك، فإنّ حكاياته تنطلق بمجرّد أن يأخذ مكانه في مقهى أو حافلة أو قطار. وهو يملك من السلاسة المتأتية من معرفته العميقة بردود أفعال الجزائري، ما يجعله يلفت الانتباه العفوي إليه ويكسب القلوب والأسماع من غير تشويش على راحة الآخرين. تقول فلسفته: "الحكواتي الفاشل هو الذي يعتقد أنّ عمق الحكاية وتشويقها كفيلان بجعلها مؤثرة، بينما لا تأثير لهما في ظل جهله بطبيعة البيئة التي يتحرك فيها، ونمط عيشها وتفكيرها وردود أفعالها وطريقة فرحها وغضبها".

أسلوب عمّي محفوظ في تقديم حكاياته، والتي استمدها من كونه ممثّلاً، وصوته القوي الذي لا يحتاج إلى مكبّر، وهيئة لباسه الجزائري الأصيل، مزايا جعلته مطلوباً في المهرجانات والمناسبات الاجتماعية في مختلف محافظات الجزائر، خصوصاً تلك الموجّهة إلى الناشئة والأطفال. يقول الناشط علي قربون من محافظة الأغواط (جنوب) إنّه اندهش من تفاعل الشرائح المختلفة مع عروض عمّي محفوظ، حين دُعي إلى المهرجان الخاص بالعرائس. "كانت أسماع الأطفال والشباب والكهول والشيوخ متوجهة إليه في الوقت نفسه، والسرّ كَمَنَ في أنّه وقف في مقام يعني الجميع بلغة يفهمها الجميع".

يرفض عمّي محفوظ الطرح القائل إنّ هيمنة الإذاعة والتلفزيون قللت من سلطة الحكواتي، ذلك أنّ "الحكاية مثل الماء الذي يمكن أن يوضع في القوالب كلها. لا يمكن أن نمنع العالم من الانخراط في وسائط جديدة، بدعوى الحفاظ على التراث الشعبي، ومنه الحكاية". ويسأل: "ما الذي يمنع الإعلام السمعي والبصري والحكواتيين في الجزائر من التعاون لجعل هذه القنوات فضاء لتعزيز حضور الحكاية بأساليب محببة، عوض الاكتفاء بالتباكي؟".
في السياق، خاض أخيراً تجربة في أكثر من فضائية جزائرية، مقدماً ما يزيد عن 200 حكاية شعبية، وصارت برامجه (أشهرها "كان يا ما كان") فسحة تجمع الأسرة الجزائرية، فيتعرف صغارها على تراث أجدادهم ويعيد كبارها علاقتهم به.

دلالات