صباح "مشرقة" منذ 60 عاماً

27 سبتمبر 2016
بدأت العمل في الخامسة من عمرها (محمد الحجار)
+ الخط -

بالرغم من أمراضها، تعمل صباح في أحد أسواق قطاع غزة منذ 60 عاماً. تعيل زوجها المقعد، وترفض مدّ يدها إلى الجمعيات. نشاطها المستمر يثير الإعجاب.

منذ ساعات الصباح الأولى تخرج أم عبد من منزلها حاملة هموم زوجها وأبنائها ومعاناة الفقر معها. تفتح دكانها القديم وسط سوق فراس في مدينة غزة في فلسطين المحتلة. تبدأ في مسح الغبار، وتنظيف المكان. ترش الماء عند المدخل وتحاول أن تظهره في أبهى حلة. تبدأ من بعدها في استقبال الزبائن الذين اعتادوا منذ عقود على زيارة دكان تلك المرأة الوحيدة بين بائعي السوق من دون رجل معها.

يبلغ عمر أم عبد، أو صباح صالح أبو عاصي، 65 عاماً. هي من مواليد مدينة غزة. بدأت حياتها في سوق فراس منذ كانت في الخامسة من العمر مع والدها الذي كان يبيع هناك الخردوات التي تتنوع ما بين مواد البناء وتجهيزات المنازل. بعد نهاية دوامها المدرسي كانت تأتي إلى دكان والدها لتساعده. لكنّه أصيب بأمراض أجبرته على ترك العمل والجلوس في البيت، وتابعت صباح وأشقاؤها وشقيقاتها عمل والدهم لتوفير لقمة العيش للعائلة.

عاشت صباح طفولتها وسط أسرة مكونة من 14 فرداً في منطقة الثلاثيني بمدينة غزة. ثم انتقلوا إلى منطقة عسقولة بالقرب من عمل والدها. أكملت دراستها حتى نهاية المرحلة الإعدادية، ثم تزوجت من ابن عمها، وباتت تساعده في بيع الحلويات لا سيما المهلبية ومن بعدها بدآ في بيع الخردوات. عاشت معه في منزل للإيجار وكانا يعملان معاً. وقبل عدة سنوات أصيب بمرض أقعده، فباتت منذ ذلك اليوم المعيل الوحيد له ولمن لم يتزوج في ذلك الحين من أبنائهما.

تقول لـ"العربي الجديد": "السوق القديم كان مخصصاً للخردوات والخضر والفواكه وغيرها. بالقرب منا كان هناك سوق بالة (ملابس وأحذية مستعملة). كان الجميع يعمل ويكسب الرزق الوفير. وكان هناك تقدير لكلّ تاجر وصاحب محل. أما اليوم فالبيع صعب جداً".

لدى صباح ثماني بنات وثلاثة أبناء. جميعهم اليوم متزوجون، بل شهدت زواج معظم حفيداتها أيضاً. مع ذلك، هي محرومة من زيارتهم، لأنّها طوال الوقت في الدكان بسبب عدم وجود مصدر دخل غيرها في الأسرة المكونة منها ومن زوجها غير القادر على الحراك اليوم. في كثير من المرات يزورها الأقارب داخل دكانها للحديث معها والاطمئنان على صحتها.




يقدّر عدد القطع الموجودة داخل محل صباح بأكثر من 20 ألفاً، ما بين أدوات منزلية ومعدات بناء ونظافة وسباكة ونجارة. تشير إلى أنّها أكثر امرأة صموداً في البيع داخل السوق. فهي تعمل ما بين 9 ساعات و12 ساعة يومياً منذ 60 عاماً. لا تنام صباح سوى ثلاث ساعات يومياً نتيجة العبء الكبير عليها في العمل والمنزل. لديها رأيها الاقتصادي أيضاً: "اليوم، يحتاج السوق إلى القوي الذي يفرض نفسه على عكس ما كان سائداً قديماً عندما كان الرزق متوفراً للجميع بالتساوي".

تعاني من أمراض عديدة؛ فمن التهاب الغضروف في ظهرها، وشدّ العضل المتكرر في قدمها، وانزلاق عضلات ساقيها، وصولاً إلى مرض القلب الذي ظهر قبل خمس سنوات وهو أكثرها خطراً على صحتها. لذلك، أوصاها الأطباء بالبقاء في المنزل وترك العمل، والاكتفاء ببعض النشاطات الخفيفة، لكنها لم تستطع التخلي عن عملها. تقول: "الزبائن لا يستغنون عني. لي اسمي في السوق، وتخليت عن كل شيء في حياتي من أجله. أبنائي لا يستطيعون أن يعيلوني أنا وزوجي، وإن بقيت في البيت سأمرض أكثر". دخلت صباح إلى المستشفى سبع مرات بسبب مرض القلب. كلّ مرة كانت تنوي أن تخضع لعلاج كامل، لكنّها لم تكمل العلاج مرة، بل قطعته وعادت إلى السوق.

ضايقها الرجال في السوق كثيراً كونها امرأة، خصوصاً في بداية عملها هناك باستقلالية، عندما تولت الدكان وحدها بعد مرض زوجها. تقول إنّهم ببساطة لا يحبون النساء اللواتي يعملن في مجال يعتبرونه للرجال فقط. كذلك، تعرض دكانها لسرقة المال منه عدة مرات.

في المقابل، تلفت إلى أنّ الكثير من الرجال المتسوقين والتجار في السوق يصفونها بأنّها "امرأة مجاهدة مكافحة توفر لقمة العيش بيديها الناعمتين بدلاً من التسول كما نرى في شوارع غزة". من جهتها، تؤكد أنّها ترفض التسول أو اللجوء إلى الجمعيات الخيرية والاعتماد على المساعدات الغذائية منها طالما في إمكانها أن تعمل لتؤمن لقمة عيشها وعيش زوجها.

تشير صباح إلى أنّ عدد النساء البائعات في السوق يقلّ تدريجياً في ظل تحكم الرجال في السوق، وعدم وضع الثقة في المرأة نتيجة العادات. تعلق: "النساء لطالما كنّ سنداً لرجالهن وأبنائهن في السوق. كذلك، كان بيع الخضر والأعشاب هنا مخصصاً للنساء. الآن لا نجد أكثر من بائعتين في كلّ السوق".

دلالات