مجزرة حاس.. درس أخير لأطفال سورية

28 أكتوبر 2016
تشبه الصغيرة فتيات سقطن في حاس (عبد دوماني/فرانس برس)
+ الخط -

"كنّا في حصّة للعلوم في الصف الثالث الابتدائي. كنت أشرح لهم أشكال الحياة على الأرض. كان ذلك الدرس الأخير بالنسبة إلى الذين قضوا. وحين سمعت هدير الطائرات في السماء، أمرتهم بالانخفاض سريعاً والاختباء تحت المقاعد. كلّ ما تبادر إلى ذهني حينها، أن يتطاير الزجاج من جرّاء ضغط الانفجار على رؤوسهم. وبعد الانفجار الأول الذي وقع في مكان قريب، ركضنا إلى خارج المدرسة. خلال أقلّ من دقيقة واحدة، سقطت قذيفة أخرى في المدرسة. قُتل اثنان من تلاميذي فيما أصيب كثيرون". هذا ما ترويه أسماء، مدرّسة من قرية حاس في ريف إدلب، خلال وصفها استهداف المدرسة ظهر أوّل من أمس، الأربعاء.

وصلت أسماء إلى منزلها "منهارة"، ولم تستطع العودة إلى المدرسة لرؤية ما حصل. "في قريتنا، ثلاث مدارس استُهدفت كلها. كنّا نشجّع الأهالي على إرسال أولادهم ليتعلموا، قائلين إنّ مستقبلهم سوف يكون أفضل حالاً إن فعلوا. لكنّني نادمة على ما قلت".

وفقاً لفريق الدفاع المدني في حاس، وصل عدد الغارات الجويّة التي استهدفت أحياء المدينة في ذلك اليوم، الأربعاء 26 أكتوبر/تشرين الأول، إلى 11 غارة. يُذكر أنّ حيّاً كاملاً سوّي بالأرض. يقول محمد وهو أحد عناصر الدفاع المدني الذي شارك في عمليات الإنقاذ، "لم نشهد يوماً كهذا من قبل. حجم الدماء كان هائلاً. بقينا نبحث تحت الأنقاض حتى ساعات الليل. أسوأ ما حدث هو أنّ الضحايا كانوا من الأطفال. في المكان، أياد ورؤوس صغيرة ودماء ودفاتر وحقائب. أمّا المصابون الذين أنقذناهم، فكانت حال معظمهم خطرة جداً". يضيف: "حين وصلنا، كان الطيران الحربي لا يزال في الأجواء وينفّذ ضربات متتالية في أماكن قريبة. رأيت أحد الآباء وهو يجري حاملاً ولده المصاب. لكنّه أصيب بدوره من جرّاء غارة تالية، فنُقل كلاهما إلى المستشفى". ويتابع محمد: "حين كنّا نبحث بين الأنقاض، كانت الأمهات والآباء وإخوة الأطفال من حولنا، يلفّون جثث صغارهم وسط عويل وكلمات قاسية. أذكر كذلك أنّ إحدى الأمهات جلبت غطاء لطفلها ولفّته به بهدوء من دون بكاء. كانت الصدمة واضحة عليها، ولم تكن تسمع ما يُقال حولها. لفّت جثّة طفلها وحملتها وذهبت".

من جهته، يقول سامي القرجي وهو ناشط من كفرنبل المحاذية لحاس، إنّ "القرية منكوبة بكلّ ما للكلمة من معنى. 36 شهيداً في يوم واحد في قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 20 ألفاً". كما يؤكد الناشط الإعلامي، جابر أبو محمد، لـ"العربي الجديد": "إنّ عدد قتلى المجزرة أكثر من 36، بينهم 22 طفلاً وستة معلمين، بينما ما يزال أربعة مفقودين".

يضيف القرجي أنّه "بعد الغارتين الأوليين، بدأ التلاميذ يهربون من المدرسة، وكانت ستّ غارات حول المدرسة. استشهد كذلك عدد من الأهالي الذين هرعوا للاطمئنان على أبنائهم وإسعافهم". ويشير إلى أنّه في حين "أقيم تشييع جماعي للشهداء في القرية، نُقل قسم كبير من الجرحى إلى مستشفيات القرى المحيطة بالإضافة إلى تلك الحدودية، إذ إنّ النقاط الطبية في حاس لم تكن كافية".




وكانت الغارات المتتالية قد تسبّبت في حالة هلع شديد في القرية. تخبر أم أحمد التي نجا ابنها من المجزرة: "حين سمعت صوت الطائرات، خرجت مسرعة ونظرت إلى السماء حيث كانت الطائرات تحلّق فوق مدرسة ولدي. عرفت أنّها سوف تضرب المدرسة. كان الناس يركضون بعيداً عن مكان القصف وأنا أركض في اتجاهه وأقول لنفسي: سيموت ولدي الآن.. سيموت الآن". تضيف: "عند الانفجار، شعرت بأنّ روحي تقفز من صدري مع أنّني لم أصب. استجمعت قواي وتابعت ركضي إلى المدرسة. حين وصلت، وجدت أطفالاً مذعورين ملطّخين بالدماء خارجها. ناديت أحمد، فأمسك ولد بطرف ثوبي. مسحتُ الغبار والدم عن وجهه، فعرفت أنّه ليس ولدي. بعد قليل، رأيت أطفالاً يغمضون أعينهم ويصرخون. كان بينهم، عرفته من حقيبته. تفحّصت جسده وأطرافه وحملته وركضت به عائدة إلى المنزل". وتكمل: "لم ينم طوال الليل وظلّ يسألني عن أصدقائه واحداً تلو الآخر".

جاسم إدلبي ممرّض من معرّة النعمان، يخبر أنّه "خلال ساعة من الوقت، وصل إلى مشافي المعرّة أكثر من 50 مصاباً من بينهم شهداء. وقد نقلت الإصابات الخطرة إلى المستشفيات الحدودية، لعدم توفّر الإمكانات اللازمة لإجراء جراحات لهم. نُقلوا على عجل، ولم يكونوا بمعظمهم مرافَقين من قبل أقاربهم". وقد شهد إدلبي "خمس عمليات بتر أرجل، اثنتان منهما لطفلين سوف يعيشان ليذكرا أنهما فقدا أطرافهما حين كانا في المدرسة". يضيف أنّ "كثيرين وصلوا وراحوا يبحثون عن أقارب لهم بين الشهداء والجرحى. لن ينسى أهالي حاس هذا اليوم المشؤوم، كما لن ينساه أطفالها الذين لن يرغب أيّ منهم في الذهاب إلى المدرسة من جديد".

من جهته، ينقل ياسر طرف وهو مصوّر من حاس ما رآه. يقول: "عقب الضربة الأولى، رأيت من النافذة أطفالاً يصرخون. وكان الناس يتوافدون من كلّ مكان. النساء بمعظمهنّ، كنّ بملابس البيت. شعرت بأنّه يوم الحشر". يضيف: "رأيت رجلاً يطير في الهواء من حدّة الانفجار، ورأيت امرأة تبحث عن ابنها بين أكياس المتوفّين حتى وجدته. وكان الأطفال قد خبّئوا في الجوامع وفي فرن في طبقة أرضية، فهو آمن إلى حد ما. كلّ أم أرادت البحث عن أطفالها، كانت تتوجّه إلى الفرن". ويشير طرف إلى أنّه شخصياً، لم يستطع التقاط الصور "لهول المنظر"، مشدداً على أنّ "الكارثة الكبرى هي في كيفيّة معالجة هؤلاء الأطفال نفسياً بعد هذه الصدمة".

عقب مجزرة حاس الأخيرة، وصفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ما حدث بأنّه "أحدث الفظائع وأعنف هجوم على المدارس منذ بدء الحرب في سورية قبل خمس سنوات". أضافت أنّه "ندبة جديدة في مستقبل سورية. فقد الأطفال عائلاتهم إلى الأبد وفقد المدرّسون تلاميذهم إلى الأبد. هذه جريمة حرب في حال كانت متعمّدة".

في هذا السياق، يقول مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" فضل عبد الغني إنّ "بيان منظمة يونيسف أشار إلى ضرورة أن يكون الهجوم متعمّداً حتى يوصف بأنّه جريمة حرب. نحن نختلف مع ذلك. وفقاً للقانون الدولي الإنساني، يحتّم على منفّذ الهجوم اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتجنّب قصف المدنيين. بالتالي، فإنّ القصف العشوائي غير المبرّر يصبح حتماً جريمة حرب". ويوضح عبد الغني أنّ الانتهاك الأبرز الذي يسجّله استهداف المدارس في قرية حاس، هو "قصف مرفق مدني. فالمدرسة من المرافق المشمولة بالرعاية. والقصف كذلك أوقع عدداً كبيراً من الضحايا، في حين لا نجد أيّ هدف عسكري بالقرب من المدرسة. ولا يمكن أن نعدّها تحت بند الأضرار الجانبية، بسبب عدم وجود أيّ فائدة عسكرية".

باريس تتهم موسكو أو دمشق

بدا وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك آيرولت، حاسماً وهو يقول، إنّ القصف الذي استهدف قرية حاس في محافظة إدلب السورية، نفّذه الروس أو النظام السوري. وأضاف: "في كلّ الأحوال، ليست المعارضة. القصف يستلزم طائرات". أتى ذلك في حين نفت روسيا أيّ علاقة لها بالغارات وقالت المتحدثة الرسمية باسم خارجيتها، ماريا زاخاروفا، إنّ "هذا كذب".