بعد مقتل رجل مسيحي مع زوجته في مدينة الناصرية، جنوبي العراق، وتكرار الحالة مع طبيب مسيحي آخر مع أسرته، ثم صائغ ذهب من طائفة الصابئة المندائيين خلال أسبوع، عاود ملف اغتيال وتصفية الأقليات العراقية للظهور مجدداً، ليفضح ضعف الجهود الأمنية، ويفتح باب التساؤل عن ممولي وداعمي العصابات المنظمة والمليشيات المسلحة التي تمارس الإرهاب والترويع بحق أهالي العاصمة بغداد.
وقُتل، يوم الجمعة الماضي، طبيب مسيحي مع أسرته في حي سكني، شرقي بغداد، على يد مجهولين، ما دفع بعشرات الناشطين المدنيين والصحافيين ورجال دين من الديانة المسيحية إلى التجمع والاحتجاج أمام بيت القتيل، لمطالبة القوات العراقية بأخذ دورها في حماية المواطنين وإجراء التحقيق القضائي بشأنها.
وقال الصحافي ماهر صمد، إن "العصابات التي تستهدف بالقتل شخصيات من الأقليات الدينية في العاصمة عادت من جديد، بعد فترة هدوء ارتاح فيها سكان بغداد، لكن أن تخسر بغداد خلال أسبوع واحد سبعة مسيحيين هو أمر مقصود".
وبيّن لـ"العربي الجديد"، أن "البغداديين يعرفون من يقتل هؤلاء الناس، يعرفون القتلة، وهم واضحون للجميع، لكن لا أحد يجرؤ على الحديث عن أسمائهم أو عن الجهات التي تدعمهم، وهذا الصمت سيطول، لأن القتلة لديهم إمكانيات دولة، يمتلكون أسلحة مرخصة من الدولة، وسيارات حديثة مضللة ذات أرقام حكومية".
وأعلن بطريرك الكلدان في العراق والعالم، لويس رفائيل ساكو، أمس الاثنين، يوماً للحداد في كنائس بغداد استنكاراً لمقتل مسيحيين. وقال بيان للبطريركية، اطلع عليه "العربي الجديد"، إن "البطريركية الكلدانية قررت إعلان الحداد الإثنين (أمس) استنكاراً لمقتل الشاب سامر صلاح، وعائلة الطبيب هشام مسكوني المسيحيين، وندعو أولادنا جميعاً لإظهار حدادهم بوضع شريط أسود على صدورهم أثناء دوامهم الرسمي"، مطالباً "وزارة الداخلية بملاحقة الجناة والكشف عنهم ومعاقبتهم بأسرع وقت".
ووقعت جريمة مماثلة أسفرت عن مقتل صائغ "صابئي" مع زوجته في منطقة سبع أبكار، شمالي بغداد، في حادثة غامضة رواها أحد أقرباء القتيل، قائلاً: "تم اختطاف الرجل مع زوجته، الثلاثاء الماضي، بعدها أجبر الخاطفون الرجل على الذهاب إلى محل الصياغة خاصته ونقل المصوغات الذهبية والأموال من المحل إليهم، مع الإبقاء على الزوجة رهينة لديهم". وأشار إلى أن "الصائغ خضع دون نقاش، وذهب إلى محله ونقل كل المصوغات الذهبية لهم".
وقال لـ"العربي الجديد"، إن "الخاطفين لم يتركوا المختطفين، وتلقينا اتصالاً بعد ذلك بسبع ساعات من قبل أحد الأصدقاء، ثم أرسل لنا صورة لجثتين تعرضتا للشنق"، لافتا إلى أن "مركز شرطة منطقة (الشعب)، شمالي العاصمة بغداد، أغلقت ملف التحقيق بعدما تسربت أخبار أن مليشيات مسلحة من المحسوبين على عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، هي التي تسيطر من خلال نفوذها على أسواق مدينة بغداد الجديدة".
وفي هذا السياق، أكد النائب في البرلمان العراقي عن المكون المسيحي جوزيف صليوا، أن "الإرهابيين الذين يقتلون المسيحيين والصابئة المندائيين في بغداد ومناطق أخرى، يرتبطون بجهات مسلحة عراقية لها صلة بدول إقليمية، لتحقيق غاية ترغب بها بلدان تسعى لسحق التنوع العقائدي والديني"، مشيراً إلى أن "الجهات تنفذ أجندات خارجية لا ترغب بأن يكون العراق قوياً لأنه متنوع وأصيل".
وقال صليوا لـ"العربي الجديد"، إن "القتلة يسلبون أموال المختطفين قبل تنفيذ عمليات النحر والشنق بحقهم، وبذلك فهي عملية إنهاء وجود مادي للمسيحيين وغيرهم من الأقليات، ووجودي أيضاً". ولفت إلى أن "المسؤول عن كل ما يحدث من إرهاب وترويع، هو رئيس الحكومة حيدر العبادي، كونه القائد العام للقوات المسلحة والمسؤول عن حماية كل مواطن عراقي".
وأصدرت الجمعية العراقية لحقوق الإنسان، أمس الاثنين، أحصاءً بأعداد المفقودين في العراق من مختلف الطوائف، بيّنت فيه أن العراق فقد 81 في المائة من مسيحييه منذ 2003. وقالت الجمعية، في بيان: "قوى الشر والجريمة والعصابات المسلحة المنظمة التي تمتلك السيارات الحديثة والأسلحة نفذت عدداً من جرائم الخطف والقتل في أقل من شهر، في تحدٍ صارخ للدولة، ولزرع الرعب مرة أخرى في صفوفهم لإنهاء وجودهم في البلاد"، مضيفة أنه "منذ عام 2003 ولغاية الآن فقدَ العراق 81 في المائة من أبناء الشعب المسيحي، و94 في المائة من المكون الصابئي المندائي، و18 في المائة من المكون الأيزيدي".
في موازاة ذلك، علّل البرلماني العراقي عن المكون الصابئي المندائي، حارث الحارثي، تجدد حالات قتل الأقليات إلى "قرب موعد الانتخابات" وشعور بعض القوى السياسية بحاجتها إلى "إثارة الفوضى". وقال الحارثي لـ"العربي الجديد"، إنه في "الأسابيع الماضية خسر المكون الصابئي في العراق قرابة أربعة أشخاص بعد اختطافهم من قبل جهات متنفذة ومرتبطة بأحزاب وجهات سياسية"، معتبراً أن السبب "قرب موعد الانتخابات التشريعية في العراق، ونحن تعودنا حصول مثل هذه الحالات قُبيل كل فترة انتخابية من أجل إثارة الفوضى".
وأضاف أن "الأجهزة الأمنية ضعيفة والحس الاستخباراتي يكاد يكون معدوماً في بغداد، وحتى الآن القيادات الأمنية لا تراعي مواضيع فنية تتعلق بنشر الكاميرات في الشوارع لملاحقة الخاطفين عند حدوث حالة" من هذا النوع، مستبعدا أن تكون للخاطفين "غايات مادية" إنما القضية تتعلق بالتطهير العرقي وإثارة الفوضى من خلال استهداف مكونات الأقليات.
بدوره، اتهم عضو اللجنة الأمنية في المجلس المحلي ببغداد، سعد المطلبي، "جهات كردية انفصالية" بقتل أشخاص من المسيحيين والصابئة، وقال لـ"العربي الجديد": "هناك جهات سياسية متنفذة تمثل الانفصاليين الأكراد، وغيرهم من عناصر تنظيم داعش وبعض المليشيات المسلحة، تمارس عمليات قتل وترويع للأقليات، لتحقيق غايات سياسية"، لافتا إلى أن "هذه الجرائم ليست اعتباطية، إذ شهدت العاصمة بغداد خلال فترات متفاوتة مثل هذه الحالات، خصوصا في الفترة التي دعت فيها حكومة كردستان مسيحيي بغداد والمناطق الجنوبية من البلاد للالتحاق بمحافظات الشمال، وكانت العمليات الإرهابية بعد ذلك بمثابة تبرير للخطر المحدق بالأقليات".
وأضاف أن "سوء العلاقة بين إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد، ربما يكون سبباً مهما لقتل الأبرياء، من قبل الانفصاليين الأكراد"، مؤكدا أن "الجرائم ما هي إلا سياسية واستراتيجية غايتها تغيير الخارطة الديموغرافية في بغداد".
وحدث أن دفعت الأخطار الأمنية ما بين أعوام 2006 حتى 2014، أغلب المسيحيين وأبناء المكونات الأخرى في العراق للجوء إلى إقليم كردستان، كونه أكثر أمناً من باقي مناطق العراق التي شهدت حروباً طائفية، انتهت أخيرا باحتلال "داعش" لمناطق عدة من البلاد، ثم بسيطرة قوات ومليشيات مسلحة على مناطق بغداد من خلال نفوذها الموالي لجهات خارجية، أبرزها إيران.