يوم الإثنين الماضي، أعلنت المدعية العامة في مدينة بالتيمور الأميركية، مارلين موسبي، عن تقديمها لائحة اتهام ضد ستة ضباط في شرطة المدينة، بسبب مقتل الشاب الأميركي من أصول أفريقية فريدي غراي (25 عاماً). وكان غراي قد توفي بعد أسبوع من اعتقاله واحتجازه في 12 أبريل/ نيسان الماضي.
تختلفُ حادثة مقتل الشاب الأميركي الأسود فريدي غراي عن حوادث أخرى مشابهة شهدتها الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة، على اعتبار أن الضالعين في القتل هذه المرة ليسوا فقط من البيض، بل هناك ثلاثة سود متهمين بعملية القتل. أيضاً، فإن نصف قوات الشرطة في المدينة من أبناء الأقليات أو السود. لذلك، الأمر مختلف عن مدينة فيرغسون في ولاية ميسوري على سبيل المثال، حيث غالبية السكان من السود، إلا أن غالبية قوات الشرطة من البيض.
تسلّط هذه المعطيات الضوء على صورة أخرى أكثر تعقيداً في ما يتعلق بالعنصرية ضد السود أو الأقليات من قبل قوات الشرطة أو المؤسسات الرسمية. ويرى الباحث وأستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة نيويورك سابقاً، رينيه بويتيفين، أن هذه الحادثة بالذات تمثل واقعاً جديداً في أميركا. يضيف، لـ"العربي الجديد": "كانت حادثتا خنق وقتل إريك غارنر في نيويورك، أو مايكل براون في فيرغسون، واضحتا المعالم، وشهدنا حوادث أخرى مماثلة خلال العقود الماضية. كنا أمام صورة تتكرّر، كلاسيكية إن صح التعبير، يعتدي خلالها شرطي أبيض على شاب/ أشخاص عزّل سود، لأسباب عنصرية غالباً. لكن بالتيمور جاءت لتظهر التعقيدات التي وصلنا إليها في ما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان والمواطن، بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية والحقوق الاجتماعية في الولايات المتحدة، ما يزيد الأمر خطورة وتعقيداً".
الليبرالية الجديدة
في السياق، يؤكد بويتيفين، الذي عمل لسنوات طويلة مع نقابات العمال والأقليات وخصوصاً المتحدرين من أصول لاتينية، أن الاحتجاجات التي شهدتها المدينة، أو أعمال الشغب وحرق المحال، لم تفاجئه. يلفت إلى موجة أخرى من الاحتجاجات كانت قد شهدتها الولايات المتحدة خلال ستينيات القرن الماضي، بسبب الأوضاع الأقتصادية وعنف الشرطة. يضيف أن "إحدى أشهر الانتفاضات آنذاك كانت في لوس أنجلس، التي انطلقت شرارتها بسبب سياسة الفصل العنصري والتمييز ضد السود، بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة. واليوم نقف بعد أكثر من خمسة عقود في مكان مشابه، إن لم يكن أسوأ على مستويات عدة".
كيف؟ يوضح بويتيفين أن "الليبرالية الجديدة هي الأساس لفهم ما وصلت إليه الأمور. فعلى الرغم من أن غالبية التظاهرات كانت سلمية، إلا أن الإعلام الأميركي ركّز على أعمال الشغب التي شهدتها بالتيمور، وصوّرها على أنها مجرّد أعمال شغب من قبل أشخاص عنيفين، لدى بعضهم سوابق جنائية". ويرى أن التركيز على جزء ممّا حدث ليس صدفة، بل هو نوع من الهرب حتى لا يطرح غالبية المواطنين أسئلة أكثر تعقيداً، تلك المتعلقة بغياب العدالة الاجتماعية والعنصرية، ليصبح رد الفعل الطبيعي مزيداً من العنف من قبل الدولة للسيطرة على عنف المتظاهرين.
ويرى بويتيفين أن "النظر بشكل أعمق لما يحدث يعني رصد ما تعيشه هذه المناطق من بطالة وبؤس وفقر، بسبب نظام يسخّر المجتمع وأبناءه في خدمة الاقتصاد، وتحديداً اقتصاد الشركات الكبيرة". ويؤكد أن "نسبة البطالة بين السود تصل إلى 40 في المائة. كما أن غياب البنية التحتية والخدمات الاجتماعية والظلم التاريخي من عبودية وفصل عنصري، كلها عوامل يجب أخذها بالاعتبار عند النظر لهذه الاحتجاجات وأعمال الشغب، من دون أن يعني ذلك إيجاد الأعذار لها".
شركات خاصة
خلال العقود الخمسة الأخيرة، وتحديداً منذ حدوث احتجاجات كبيرة منتصف ستينيات القرن الماضي، عمدت الحكومات المتعاقبة إلى تقليص البرامج الاجتماعية التي تهدف إلى الحد من البطالة والفقر، ولزّمت بعضها إلى شركات خاصة. يضيف بويتيفين: "حتى السجون في هذا البلد والجيش أصبحا بأيدي شركات خاصة تعتمد على الربح ومقاييس السوق. وعندما تبني الدولة مساكن للفقراء مثلاً، فإنها تلزّم المشاريع لشركات خاصة تجني أرباحاً هائلة منها".
وحول العلاقة بين المساعدات الاجتماعية التي تقدّمها الدولة والأجور المنخفضة، يرى بويتيفين أن "الدولة تساعد الشركات الكبرى عن طريق تقديم مساعدات اجتماعية للعمال. فمن غير الطبيعي أن لا يتمكن عامل في إحدى أقوى الدول الاقتصادية من إعالة عائلته، ما يضطره للحصول على معونات إضافية". ويرى أن الدولة بذلك تبقي الوضع القابل للانفجار تحت السيطرة، وهذا ما شاهدناه في بالتيمور.
ظاهرة أُخرى لا يستهان بها تتعلّق بمعايير مزدوجة تتخذها الحكومة الأميركية في ما يتعلق بالهجرة غير القانونية. فهناك أكثر من 12 مليون مهاجر غير قانوني. وخلال الآونة الأخيرة، جرت محاولات للاعتراف بعدد لا بأس به منهم، إلا أن هذا يؤدي إلى تحديات إضافية، من بينها أن الاقتصاد الأميركي وقطاعات واسعة منه تشغّل هؤلاء من دون أي ضمانات اجتماعية أو صحية، لتكون أجورهم أكثر تدنياً من أجور العمال المتدنية أصلاً. وهذا يضمن دوران عجلة الأرباح التي تستفيد منها بالدرجة الأولى الشركات على حساب الفقراء.
لفهم تعقيدات الوضع في ما يتعلق باشتراك سود أو أقليات أخرى في قمع السود الأكثر فقراً، يقول بويتيفين: "تفاءل كثيرون بمجيء باراك أوباما إلى سدة الحكم، لكنه عمل على تسفير عائلات مهاجرة بأعداد فاقت سلفه جورج بوش".
ويرى الباحث في علم الاجتماع أنه يجب رؤية ما يحدث في بالتيمور بكل تعقيداته في سياق النظام الليبرالي الجديد، فيصبح كل من هو داخل النظام، بغض النظر عن خلفيته الإثنية أو الدينية، جزءاً من أداة القمع المؤسساتية. كما أن تفكيك معظم البرامج الاجتماعية التي كانت توفر دعماً للفقراء وذوي الدخل المحدود وتقليص الخدمات العامة وتحويل الامتيازات الضريبيّة لصالح رأس المال، يؤدي بالنتيجة إلى أوضاع اقتصادية واجتماعية بائسة لشرائح واسعة من الفقراء والأقليات، كما حدث في ديترويت التي أصبحت أجزاء واسعة منها مهجورة، وكما يحدث في بالتيمور.
كوبونات الغذاء
يقول رينيه بويتيفين إنّ العمال في متاجر "وال مارت" لا يحصلون على رواتب تكفي لإطعام عائلاتهم، مما يضطرهم إلى الحصول على المساعدات الاجتماعية أو ما يعرف بـ "كوبونات الغذاء". وتجدر الإشارة إلى أن العمال في متاجر "وال مارت"، وغيرها من الشركات الكبرى على غرار "ماك دونالد"، ينفذون احتجاجات أسبوعية منذ أشهر، مطالبين بتحديد حد أدنى للأجور يصل إلى 15 دولاراً في الساعة.
تختلفُ حادثة مقتل الشاب الأميركي الأسود فريدي غراي عن حوادث أخرى مشابهة شهدتها الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة، على اعتبار أن الضالعين في القتل هذه المرة ليسوا فقط من البيض، بل هناك ثلاثة سود متهمين بعملية القتل. أيضاً، فإن نصف قوات الشرطة في المدينة من أبناء الأقليات أو السود. لذلك، الأمر مختلف عن مدينة فيرغسون في ولاية ميسوري على سبيل المثال، حيث غالبية السكان من السود، إلا أن غالبية قوات الشرطة من البيض.
تسلّط هذه المعطيات الضوء على صورة أخرى أكثر تعقيداً في ما يتعلق بالعنصرية ضد السود أو الأقليات من قبل قوات الشرطة أو المؤسسات الرسمية. ويرى الباحث وأستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة نيويورك سابقاً، رينيه بويتيفين، أن هذه الحادثة بالذات تمثل واقعاً جديداً في أميركا. يضيف، لـ"العربي الجديد": "كانت حادثتا خنق وقتل إريك غارنر في نيويورك، أو مايكل براون في فيرغسون، واضحتا المعالم، وشهدنا حوادث أخرى مماثلة خلال العقود الماضية. كنا أمام صورة تتكرّر، كلاسيكية إن صح التعبير، يعتدي خلالها شرطي أبيض على شاب/ أشخاص عزّل سود، لأسباب عنصرية غالباً. لكن بالتيمور جاءت لتظهر التعقيدات التي وصلنا إليها في ما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان والمواطن، بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية والحقوق الاجتماعية في الولايات المتحدة، ما يزيد الأمر خطورة وتعقيداً".
الليبرالية الجديدة
في السياق، يؤكد بويتيفين، الذي عمل لسنوات طويلة مع نقابات العمال والأقليات وخصوصاً المتحدرين من أصول لاتينية، أن الاحتجاجات التي شهدتها المدينة، أو أعمال الشغب وحرق المحال، لم تفاجئه. يلفت إلى موجة أخرى من الاحتجاجات كانت قد شهدتها الولايات المتحدة خلال ستينيات القرن الماضي، بسبب الأوضاع الأقتصادية وعنف الشرطة. يضيف أن "إحدى أشهر الانتفاضات آنذاك كانت في لوس أنجلس، التي انطلقت شرارتها بسبب سياسة الفصل العنصري والتمييز ضد السود، بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة. واليوم نقف بعد أكثر من خمسة عقود في مكان مشابه، إن لم يكن أسوأ على مستويات عدة".
كيف؟ يوضح بويتيفين أن "الليبرالية الجديدة هي الأساس لفهم ما وصلت إليه الأمور. فعلى الرغم من أن غالبية التظاهرات كانت سلمية، إلا أن الإعلام الأميركي ركّز على أعمال الشغب التي شهدتها بالتيمور، وصوّرها على أنها مجرّد أعمال شغب من قبل أشخاص عنيفين، لدى بعضهم سوابق جنائية". ويرى أن التركيز على جزء ممّا حدث ليس صدفة، بل هو نوع من الهرب حتى لا يطرح غالبية المواطنين أسئلة أكثر تعقيداً، تلك المتعلقة بغياب العدالة الاجتماعية والعنصرية، ليصبح رد الفعل الطبيعي مزيداً من العنف من قبل الدولة للسيطرة على عنف المتظاهرين.
ويرى بويتيفين أن "النظر بشكل أعمق لما يحدث يعني رصد ما تعيشه هذه المناطق من بطالة وبؤس وفقر، بسبب نظام يسخّر المجتمع وأبناءه في خدمة الاقتصاد، وتحديداً اقتصاد الشركات الكبيرة". ويؤكد أن "نسبة البطالة بين السود تصل إلى 40 في المائة. كما أن غياب البنية التحتية والخدمات الاجتماعية والظلم التاريخي من عبودية وفصل عنصري، كلها عوامل يجب أخذها بالاعتبار عند النظر لهذه الاحتجاجات وأعمال الشغب، من دون أن يعني ذلك إيجاد الأعذار لها".
شركات خاصة
خلال العقود الخمسة الأخيرة، وتحديداً منذ حدوث احتجاجات كبيرة منتصف ستينيات القرن الماضي، عمدت الحكومات المتعاقبة إلى تقليص البرامج الاجتماعية التي تهدف إلى الحد من البطالة والفقر، ولزّمت بعضها إلى شركات خاصة. يضيف بويتيفين: "حتى السجون في هذا البلد والجيش أصبحا بأيدي شركات خاصة تعتمد على الربح ومقاييس السوق. وعندما تبني الدولة مساكن للفقراء مثلاً، فإنها تلزّم المشاريع لشركات خاصة تجني أرباحاً هائلة منها".
وحول العلاقة بين المساعدات الاجتماعية التي تقدّمها الدولة والأجور المنخفضة، يرى بويتيفين أن "الدولة تساعد الشركات الكبرى عن طريق تقديم مساعدات اجتماعية للعمال. فمن غير الطبيعي أن لا يتمكن عامل في إحدى أقوى الدول الاقتصادية من إعالة عائلته، ما يضطره للحصول على معونات إضافية". ويرى أن الدولة بذلك تبقي الوضع القابل للانفجار تحت السيطرة، وهذا ما شاهدناه في بالتيمور.
ظاهرة أُخرى لا يستهان بها تتعلّق بمعايير مزدوجة تتخذها الحكومة الأميركية في ما يتعلق بالهجرة غير القانونية. فهناك أكثر من 12 مليون مهاجر غير قانوني. وخلال الآونة الأخيرة، جرت محاولات للاعتراف بعدد لا بأس به منهم، إلا أن هذا يؤدي إلى تحديات إضافية، من بينها أن الاقتصاد الأميركي وقطاعات واسعة منه تشغّل هؤلاء من دون أي ضمانات اجتماعية أو صحية، لتكون أجورهم أكثر تدنياً من أجور العمال المتدنية أصلاً. وهذا يضمن دوران عجلة الأرباح التي تستفيد منها بالدرجة الأولى الشركات على حساب الفقراء.
لفهم تعقيدات الوضع في ما يتعلق باشتراك سود أو أقليات أخرى في قمع السود الأكثر فقراً، يقول بويتيفين: "تفاءل كثيرون بمجيء باراك أوباما إلى سدة الحكم، لكنه عمل على تسفير عائلات مهاجرة بأعداد فاقت سلفه جورج بوش".
ويرى الباحث في علم الاجتماع أنه يجب رؤية ما يحدث في بالتيمور بكل تعقيداته في سياق النظام الليبرالي الجديد، فيصبح كل من هو داخل النظام، بغض النظر عن خلفيته الإثنية أو الدينية، جزءاً من أداة القمع المؤسساتية. كما أن تفكيك معظم البرامج الاجتماعية التي كانت توفر دعماً للفقراء وذوي الدخل المحدود وتقليص الخدمات العامة وتحويل الامتيازات الضريبيّة لصالح رأس المال، يؤدي بالنتيجة إلى أوضاع اقتصادية واجتماعية بائسة لشرائح واسعة من الفقراء والأقليات، كما حدث في ديترويت التي أصبحت أجزاء واسعة منها مهجورة، وكما يحدث في بالتيمور.
كوبونات الغذاء
يقول رينيه بويتيفين إنّ العمال في متاجر "وال مارت" لا يحصلون على رواتب تكفي لإطعام عائلاتهم، مما يضطرهم إلى الحصول على المساعدات الاجتماعية أو ما يعرف بـ "كوبونات الغذاء". وتجدر الإشارة إلى أن العمال في متاجر "وال مارت"، وغيرها من الشركات الكبرى على غرار "ماك دونالد"، ينفذون احتجاجات أسبوعية منذ أشهر، مطالبين بتحديد حد أدنى للأجور يصل إلى 15 دولاراً في الساعة.