أعطونا الطفولة

23 ديسمبر 2019
أطفال يشاركون في السلسلة البشرية (حسين بيضون)
+ الخط -
في المرة الثانية التي أكتب فيها عن الأطفال خلال الثورة التي يشهدها لبنان، ثمّة ما هو مقلق، سواء من قبل الأشخاص الذين يجدون أنفسهم جزءاً من هذه الثورة، أو الذين لا يشعرون بالانتماء إليها. وفي الحالتين، صار الأطفال إما مؤيدين أو رافضين، تبعاً لأهلهم. وهذا ما هو إلا استمرار للتبعية الحزبية التي يرثها الأطفال، والتي إما يبقون عليها في مرحلة الشباب أو ينبذونها أو ببساطة يختارون الاستقلالية.

المسارُ يتجدّد، ويجد الطفل نفسه ضحيّة لطفل آخر. هذا في حال نظرنا إلى الواقع بالعين المجرّدة. والأصحّ أن الطفل ضحية للبيئتين: الصغرى وتلك الكبرى. وفي كلتيهما، كميّة من الأفكار والثوابت التي ستصل إليه حتماً طالما أنه ينتمي إلى بيت معيّن، وإن بغير قصدٍ. في إحدى المدارس، تعارك أطفال لم يتجاوزوا العاشرة من العمر لأن مجموعة شتمت الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، الأمر الذي رفضته المجموعة الثانية. فكما في الشارع، رفض صغار شعار "كلّن يعني كلّن". والخلاصة أن الأهل قوقعوا حياتهم في زاروب ضيّق للغاية يتمحور حول شخص نصرالله، من دون التفكير في حقّهم كأشخاص بالعيش الكريم.

وهذه الوراثة المبكّرة (نصرالله ليس إلا مثالاً هنا) قد تستمرّ طويلاً، وتحرم أي شاب من تقييم الأمور من الخارج، ما يعطيه رؤية أكثر حيادية، بغض النظر عما إذا كان موقفه سيبقى على حاله أو لا. فالأهم هو أن يصنع الفرد قناعاته بنفسه، سواء من خلال قراءاته وربما تجاربه وغير ذلك.

وما نرثه، خصوصاً عن الأهل، يبقى ثقيلاً لفترة من الوقت، وليس من السهل التخلّص منه نتيجة عوامل نفسية واجتماعية عدة.

طفل آخر طلب من والدته إعطاءه قدراً لقرعه عند الساعة الثامنة مساء، وهذه حالة تعبيرية شارك فيها الكثيرون. ثم سألها إذا ما كانت ستشاركه القرع، وحين كان جوابها سلبياً، سارع إلى اتهامها بأنها ضد الثورة. موقفه هذا ليس بريئاً تماماً إذ كان قد عرف مسار الـ"مع" والـ "ضد"، وسمع الصفات التي تخصّ كل فئة أو مجموعة.




وراح طفل يبلغ من العمر ثماني سنوات، يغني: "هيلا هيلا هيلا هيلا هوو"، لتمازحه والدته قائلة: "جبران باسيل (وزير خارجية لبنان ورئيس التيار الوطني الحر) ما في منو"، فاعترض على الفور لأن الأخير "قتل كثيرين"، على حد قوله. والدته، وهي ليست مناصرة للتيار، أوضحت أن الأمر ليس كذلك. وهو، إضافة إلى كثيرين، لم يعملوا لصالح البلد. وفي اليوم التالي، عاد من المدرسة ليخبر والدته أن "باسيل لم يقتل الناس، بل الأشخاص الذين يعمل معهم"، في إشارة إلى "حزب الله" من دون أن يسميه لأنه لا يعرفه.

يحق للأطفال أن نحميهم من متاهات كهذه، ونركز على توعيتهم حول حقوقهم المسلوبة، إذا ما أردنا مواطنين في المستقبل. أما الإرث، فلا يُعوّل عليه دائماً.
المساهمون