المساجد العُمانية.. صيرورة ماضٍ للحاضر والمستقبل

07 يناير 2016
تزخر عمان بمساجد كحبات العقيق (Getty)
+ الخط -
تنتشر المساجد الأثرية في عُمان والتي تعكس قيمة أثرية وتاريخية كبيرة للسلطنة، بما تمثله كفن من فنون العمارة الإسلامية، والتي تتناسب مع بيئة البلاد ومكوناتها الروحية

مع دخول الإسلام إلى سلطنة عُمان، بات واضحاً حضور فنون العمارة الإسلامية في بناء المساجد والتكايا، أو ما يمكن تسميته، هُنا، بـ" مساجد العُباد". حيث ترك العُمانيون بصمتهم في فنون عمارتهم، بما يتناسب مع بيئتهم ومكوناتها الروحية والمادية.

مسجد المضمار، ومسجد العقبة (ذو القبلتين)، ومساجد العُباد. مساجد عُمانية أثرية قديمة، سنذهب إليها ونبحث في السّر الكامنِ خلف بساطة بنائها، ولماذا اكتسبت مظهرا متقشفاً خالياً من السّمات البارزة التي اشتهرت بها المساجد الإسلامية على مرّ العصور؟! وكيف احتفظ كل مسجد بحكايته الروحانية والإيمانية؟

بداية على المتتبع لسيرة المساجد، هُنا، الأخذ بما وثقه المتخصصون والباحثون في فنون العمارة الإسلامية. حيث يذهب جُلّهم إلى تأكيد بساطة البناء وقلة تكلفته على النقيض من مساجد الحواضر الإسلامية في القاهرة وبغداد ودمشق. فهي مساجد قليلة الاهتمام بالمنمنمات والزخارف. ولربما كان هذا سبباً مباشراً لعدم حضورها ضمن كتابات الرّحالة الذين زاروا عُمان - كابن بطوطة، والاصطخري، وشمس الدين المقدسي، والبكري، والأندلسي -، بحيث إنها لم تثر دهشتهم ـ ولم يَؤرخوا لها -، إلا في ما ندر.

ويعزو الكثير من الدارسين لهندسة المساجد في الإسلام هذا التقشف في المساجد "العُمانية" إلى بعد عُمان وانعزالها الجغرافي في شرق شبه الجزيرة العربية، وبالتالي بعدها عن التأثيرات الهندسية العربية والفارسية والهندية والتركية.

البساطة والبعد عن الزخرفات

مسجد "المضمار" أو كما يعرف بمسجد مازن بن غضوبة - الواقع في مدينة سمائل - إحدى مدن المنطقة الداخلية. يمثل المسجد / الجامع في بساطته، الإطلالة الدينية الأولى التي نقلت العمانيين من عبادة الأصنام إلى دين التوحيد. حيث شيّد هذا المسجد على يد الصّحابي "مازن بن غضوبة السعدي" في السنة السادسة للهجرة، وهو أول من دخل الدين الجديد من أهل عُمان، وليصبح فيما بعد المحطة الفارقة لمرحلة كانت فيها القبائل العُمانية بشقيها - النزاري والعدناني – وثنيّة، وتقدم قرابينها إلى آلهة وأصنام كانت معروفةً عند عرب الجزيرة. وكان للعمانيين صنمهم ويدعى "باجر"، وهو من أصنام الأزد في الجاهلية ومن جاورهم من قبائل طيء وقضاعة.

هذه البساطة في البناء، لم تُلغ دقة الهندسة في توزيع المساحات، حيث يلحظ الزائر الاهتمام بالصّرح الخارجي وقاعة الصلاة، وأن عمليات الترميم التي توالت على المسجد منذ مئات القرون، والتي كان آخرها في العام 1979م لم تنل من تصميمه ومن رمزيته كأول مسجد بني في عُمان، ولم تنقطع عنه الصلاة، ولم يخفت فيه صوت الأذان منذ ما يزيد عن 1420 سنة وإلى الآن.

بني مسجد المضمار من طوب الطين "الصّاروج"، وخلا من المحراب البارز والمنارة المرتفعة والقباب الناتئة، وجدرانه الداخلية غاية في البساطة ولا تحتوي إلا على كتابة آيات قرآنية بالخط العربي.

ويؤكد العلامة - بدر الدين أبو عبد الله بن محمد الشبلي الدمشقي - المتوفى عام 769 هجرية، في مصنفه "محاسن الوسائل إلى معرفة الأوائل"، على حقيقة ما جاء من أخبار الرواة والمحدثين، بأن ابن غضوبة، ما أن حَضر بين يدي الرسول الكريم (ص)، حتى أعلنَ إسلامه واستقر منه قلباً وعقلاً.

وتلا ذلك عودته إلى أهله ودعوتهم للإسلام - وقد استجابوا له -، وقاموا ببناء مكانٍ تُقام فيه الصلوات، حيث تم بناء مسجد " المضمار"، وبذلك بني أول مسجد في عُمان.

السنة السادسة للهجرة
مسجد الكباشة وذو القبلتين والعقبة، الذي يقع في ولاية "إبراء" في شرقية عُمان. أُطلق عليه ثلاثة أسماء، تداولها العمانيون لمسجد واحد عبر التاريخ.

ويعتبر من أقدم المساجد في السلطنة بعد مسجد "المضمار"، إضافةً للعديد من المساجد التي بُنيت في السنة السادسة للهجرة، تماشياً مع مقتضيات الدين الجديد.

حمل المسجد الأسماء الثلاثة، ولكل اسم واقعة مكانية وزمانية ارتبطت بأصل ومناسبة التسمية. حيث سُمي بمسجد"العَقبة" نسبة إلى موقعه على سفح جبل النّاصري.

بينما اسم الْكباشة فقد استمد معناه من نزوع الناس قديماً إلى ذبح النذور والشّياه في باحاته، أملاً في الشّفاء، وكانت النذور عبارة عن - كبش أسود يذبح قرب المسجد - ويعلق جلده على شجرة محاذية لساحة المسجد.

نقف عند الاسم الثالث، وهو الاسم الأهم تاريخياً وتوثيقياً للمرحلة التي أمر فيها "النبي" (ص) بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة.

مساجد العُباد
تبدو للناظر وكأنها طيور محلقة على منحدرات الجبال، حيث تميز هذا النوع من المساجد (المتقشفة)، بأنها نحتت في الجبال - وتتسع غالباً لشخص واحد، وتتميز بصغر حجمها وانعزالها بعيداً عن سُكنى الناس.

انتشرت هذه المساجد منذ فترات تاريخية متباعدة في ولاية نزوى التي تحتضن آثار ما لا يقل عن سبعين مسجدا، وكذلك في ولايتي بُهلا والرستاق المجاورتين.

وتحفل كتب التراث العُماني بالكثير من الأثر عن سير أصحاب تلك المساجد، والتي كانت مقراً للعلماء والأئمّة والنُّساك، والعباد الصّالحين، والذين كانوا ينفرون إليها، طلباً للاعتكاف والعبادة. ورغم بساطة هذه المساجد إلا أنها ظلت وقفاً توقف لها الأموال لرعايتها، ولها وكلاء ليومنا هذا.

حظيت مساجد العُباد بالكثير من الرُّوحانية اللافته، فهي تمد زوارها بالكثير من السلام الداخلي والطمأنينة وتُشيع السكينة في أمكنتها البعيدة عن صخب الحياة، وكأننا في هذا التجلي الصوفي نستذكر أبياتاً لشاعر السلوك العُماني أبو مسلم البهلاني في قصيدته النهروانية:
سَميري وَهَلّ للمُسْتَهامِ سَميرُ ... تَنَامُ وبرقُ الأبْرقينَ سَهِيرُ
تمزق أحشاءَ الرَّبَابِ نِصَالهُ ... وقَلْبي بِهَاتيك النّْصَال فَطيرُ

ويعتبرمسجد الجامع في نزوى من أكبر مساجد العباد، وذلك مرده إلى إقامة صلاة الجماعة فيه. يليه مسجد القبة، وهو صغير الحجم ومدخله في وسطه ويحتوي على نافذتين، ورزونتين وتبدو أجزاء المسجد تالفة.

مسجد الجبل، وهو بحسب مسماه فقط تم تشيده على سفح جبل من الطين والحجر، ومدخله عبارة عن بابين على شكل أقواس، أما محرابه فهو عميق ومتداخل الأجزاء.

مسجد الطائر ويقع على قمة جبل هرمي الشكل، وكأن الجبل خصص للمسجد فقط. ويجد المرء صعوبة في الصعود إليه، وقد اندثرت أجزاء المسجد من الداخل والخارج؛ إلا أن بعض الأجزاء من جدرانه لا زالت متماسكة. وقد أطلق الأهالي اسم "الطائر" على هذا المسجد، لعدم معرفتهم بمن قام ببنائه وفي هذه النقطة الصعبة على قمة الجبل.

مساجد كثيرة تناثرت كحبات العقيق على رؤوس الجبال وبين الوديان وعلى أطراف المنحدرات، جميعها وعبر تاريخها الطويل تروي حكاية التاريخ الذي يحفل بسيرة الصالحين والنُّساك المنقطعين عن الحياة وزينتها في سلطنة عُمان.

اقرأ أيضاً: أمان في سلطنة عُمان