هل غابت "مقاصد" المؤسسين عن الأحفاد فباتت مدارسها وجمعيتها مهددة بالانهيار؟ سؤال لا بدّ من أن يُطرح اليوم مع المستجدات التي طرأت أخيراً، لا سيّما إغلاق مدرسة خديجة الكبرى التابعة لها.
كان يوم الخميس الموافق في الخامس من يوليو/ تموز الجاري يوماً تربوياً مشؤوماً بامتياز طاول مدارس ومعلمي القطاع الخاص السنّي من جهة والكاثوليكي من جهة ثانية، علماً أنّه يطاول كلّ المؤسسات التربوية في لبنان، وإن بنسب أقل حدّة مما تبدو عليه في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية. أمّا مشكلة المدارس الكاثوليكية التي يعيد البطريرك الماروني بشارة الراعي التأكيد عليها في عظاته كلّ أحد، فتتعلق بمضاعفات القانون الذي أصدره مجلس النواب اللبناني وقضى بإعطاء المعلمين وموظفي القطاع العام سلسلة رتب ورواتب جديدة، نظراً إلى أنّ القانون ينصّ على وحدة التشريع في القطاعَين، وهو الأمر الذي ترى الكنيسة الكاثوليكية - تملك أكبر عدد من مدارس القطاع الخاص - أنّ لا طاقة لها به، لأنّه يفرض عليها دفع متوجّبات للمعلمين على شكل رواتب ودرجات مستحقة لا تقدر عليها من دون تحميل الأهالي التكاليف.
ولمّا كان الأهالي يرفضون زيادة الأقساط على أبنائهم وبناتهم نظراً إلى عجزهم عن ذلك بفعل تراجع مداخيلهم أو انهيارها، فقد صدرت تهديدات من بعض تلك المدارس تفيد بأنّها سوف تقفل أبوابها مطلع العام الدراسي المقبل 2018 - 2019 إلا في حال عمدت الدولة إلى تمويل السلسلة من موازنتها. ونظراً إلى أنّ الدولة شبه مفلسة، فهي لن تفعل بطبيعة الحال. كلّ هذا معروف، لكنّ المفاجأة جاءت في ذلك الخميس عندما ظهر أنّ جمعية المقاصد أقفلت واحدة من كبرى مؤسساتها التربوية وأكثرها نجاحاً، مدرسة خديجة الكبرى، التي تأسست في عام 1936 والتي تقع في منطقة الظريف (غربي بيروت)، التي تسكنها فئات وشرائح فقيرة أو شبه متوسطة الحال في أحسن الأحوال، علماً أنّ دار الفتوى الإسلامية تقع في منطقة عائشة بكار (غربي بيروت). قبل ذلك، كانت مناطق البقاع والشمال والجنوب والجبل تشهد عمليات إقفال عدد من المدارس من دون أن يترافق ذلك مع ضجة في العاصمة بيروت. ولعلّ كل ما صدر هو مجرّد تصريح أدلى به النائب عن البقاع الغربي محمد القرعاوي الذي أشار إلى الواقعة مع ما سوف تقود إليه من تشريد عشرات إن لم يكن مئات المعلمين وألوف التلاميذ الذين يتلقون العلم على مقاعد مدارس باتت مقفلة.
"يا مفتينا"
ما حدث ليل الأربعاء وصباح الخميس كان القطرة التي أفاضت الكأس، فقد تسرّب خبر إقفال مدرسة خديجة الكبرى التي تضمّ 70 معلماً و783 تلميذاً وتلميذة، من المعلمين والمعلمات الذين تلقوا إشعارات بالبريد العادي عند منتصف الليل من مجلس أمناء الجمعية يعلمهم من خلالها بالاستغناء عن خدماتهم بسبب إقفال المدرسة. ومن المعلمين إلى التلاميذ انتشر الخبر، وصبيحة الخميس كان الأهالي الذين يواظبون على دفع الأقساط المطلوبة منهم سنوياً - المدرسة غير مجانية وبالتالي لا تتلقى مساعدة من الدولة - ينظمون مع أبنائهم تظاهرة حاشدة توجّهت نحو مقر المدرسة التي سبق واحتضنت قسماً منهم، احتجاجاً على القرار. والمدرسة بالتأكيد مقفلة، إذ إنّ العطلة الصيفية بدأت منذ نحو شهر. لم يكتفِ هؤلاء بالصراخ وبالهتافات الاحتجاجية، بل تحوّلوا من المكان قاصدين دار الفتوى التي لا تبعد عنهم إلا مائة وخمسين متراً. وأمام دار الفتوى، عادت الأصوات لترتفع احتجاجاً "يا مفتينا، يا مفتينا، بالطريق رميونا". كانت الأصوات ترتفع وسط شارع شعبي يعرف سكانه بعضهم بعضاً، بينما التلاميذ يبكون على مصير مدرستهم التي أمضوا تحت سقفها سنوات ونسجوا خلالها صداقات مع زملاء وألفة مع المعلمين والمعلمات.
حاول مفتي الجمهورية اللبنانية عبد اللطيف دريان، طمأنة خواطرهم بأنّ المدرسة لن تقفل، متمنياً على رئيس جمعية المقاصد الدكتور فيصل سنّو العودة عن قرار الإقفال وإنصاف المعلمين ومعالجة الموضوع بروية وحكمة مشهودتَين له ولمجلس أمناء الجمعية. لكنّ المعلمين والأهالي لم يقتنعوا بذلك، الأمر الذي دعاه إلى الاتصال العاجل بوزير التربية والتعليم العالي مروان حمادة وعدد من نواب المدينة الذين حضر منهم نائبان هما فؤاد مخزومي ونزيه نجم، إلى جانب نقيب المعلمين في المدارس الخاصة رودولف عبود ورئيس جمعية المقاصد فيصل سنّو. وعلى طريقة المفتي دريان ورجال الدين عموماً عندما تُطلب إليهم معالجة مشكلة من هذا النوع، تحدّث المفتي بلغة هادئة لاستيعاب المعضلة التي سرعان ما ظهر من خلال المواقف أنّ أبعادها تتجاوز إقفال المدرسة لتصل إلى مصير المؤسسة، أي مصير جمعية المقاصد الإسلامية ودورها التربوي والعلمي. فقد تبيّن أنّ الجمعية قررت كذلك إقفال كلية الدراسات الإسلامية ومكتبتها التي تُعدّ أهمّ مكتبة إسلامية في لبنان، إن لم يكن في المشرق العربي، بالنظر إلى ما تزخر به من مخطوطات بالإضافة إلى أمهات المصادر والمجلات والجرائد والنشرات التاريخية، مع أنّ كلفتها السنوية متواضعة. كذلك جرى الحديث عن إقفال عدد من المراكز الثقافية والدينية.
ومن خلال المداولات سواء أكانت بصوت هادئ أو مرتفع، تبيّن مثلاً أنّ الجمعية لم تسدد المتوجبات عليها لصندوق تعويضات معلمي القطاع الخاص، ما يحول دون تقاضي المصروفين حقوقهم من تعويضات نهاية الخدمة. يُذكر أنّ للمعلمين في القطاع الخاص هذا الصندوق الذي يختلف عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الرسمي. وهذا جزء من مشكلة صرف المعلمين السنوية وموعدها معروف، الخامس من يوليو/ تموز، وبعد ذلك لا يحقّ للمدرسة صرف معلميها من الخدمة. ويقول النقيب عبود هنا إنّ عدد المصروفين هذا العام قد يصل إلى نحو 600 معلم.
لكنّ المشكلة تبدو أكثر تشعباً من ذلك، إذ ظهر أنّ وزارة المالية لم تسدد للمقاصد ولغيرها من المدارس الخاصة ما يتوجّب عليها لقاء التعليم المجاني الذي تقدّمه لأبناء اللبنانيين، وهكذا وقع العجز من دون أن ينحصر بذلك، فالحكومة لم تتوقف عند مضاعفات المعضلة ولم ترد على مناشدات الوزير حمادة بتخصيص جلسة لمجلس الوزراء تبحث خلالها حصراً الملف التربوي بتشعباته وتعقيداته وهزاته الارتدادية. أمّا مجلس النواب الذي أقرّ قانون سلسلة الرتب الرواتب رقم 46، فقد قال كلمته ومشى تاركاً الجمعيات والإدارات المدرسية والأهالي وجهاً لوجه بينما يتوجب عليهم اقتلاع أشواكهم بأيديهم.
المقاصد: المؤسسة والمؤسسون
نشأت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في عام 1875، أي أنّ عمرها بات 143 عاماً بالتمام والكمال، وكانت الفكرة الأساسية من قيامها فتح مدارس قادرة على منافسة مدارس البعثات التبشيرية ذات المنابت والمشارب المتعددة: بروتستانتية إنكليزية وأميركية، وكاثوليكية فرنسية وإيطالية ونمساوية، وأرثوذكسية موسكوبية (روسية) ويونانية، بالإضافة إلى مؤسسات للموارنة والكاثوليك اللبنانيين برهبانياتهم المختلفة وأخرى للأرثوذكس وغيرها.
وكان رجالات بيروت السنّة بمعظمهم من فئة التجار، لكنّهم اكتشفوا بحكم خبرتهم أنّ العلم بات التجارة الرابحة. فالمهندس والطبيب والصيدلي والممرض والمترجم والمعلم باتوا مطلوبين في السوق، وبات عملهم مصدر دخل فعلي لصاحبه. وكانوا يرسلون أبناءهم إلى مدارس تدرّس الكتب المقدسة غير الإسلامية، الأمر الذي جعلهم يشعرون بأنّ معتقدهم وكيانهم في بيروت مدينتهم باتا مهددين في الصميم. وكان تعليم الإرساليات وكذلك التعليم الكاثوليكي المحلي قد غطّيا المرحلة الابتدائية وتلك المتوسطة وكذلك الثانوية، إلى جانب التعليم الجامعي. فنهضت الكلية السورية الإنجيلية - الجامعة الأميركية لاحقاً - في عام 1866 وجامعة اليسوعيين - جامعة القديس يوسف - في عام 1875 إلى جانب أخرى في وقت لاحق. ولأنّ العائلات البيروتية لم تكن قادرة على الانتظار، فإنّها راحت ترسل أبناءها وبناتها إليهما ثمّ إلى كلية بيروت الجامعية للبنات، وهي بروتستانتية لاحقاً. يُذكر أنّ العائلات كانت تخشى إرسال بناتها خصوصاً إلى مؤسسات تربوية مماثلة.
إلى ذلك، كان الذين ساهموا في إطلاق الجمعية بمعظمهم قد يئسوا من الدولة العثمانية وشككوا في قدرتها على مواجهة حمّى التبشير وما تحمله من خطر محدق. صحيح أنّ الدولة العثمانية أنشأت مدارس عدّة في بيروت "المحروسة" وسواها من مدن كبرى، إلا أنّ هلهلة برامجها وتقليدية معلميها ومحدودية عددها جعلتها قاصرة عن استيعاب التلامذة. وراحت جريدتَا "ثمرات الفنون" و"الفجر الصادق" تكرران: "لم تبق طائفة من طوائف بيروت إلا وأنشأت لها مدرسة أو اثنتَين بمساعيها واجتهادها إلا طائفتنا المسلمة، فإنّ كثيراً من أولادنا يلعبون في الطرقات ويطوفون في الشوارع ويستعملون قلة الأدب لعدم وجود مدرسة لنا يأوون إليها". وساد الاعتقاد بأنّ من يرسل أبناءه إلى المدارس التبشيرية إما يتخرّج منها مسيحياً أو دهرياً لا دين له.
أبو علي سلام، والد الرئيس صائب سلام، من أبرز سياسيّي المرحلة ومساهم في مشروع الجمعية، كان يظنّ أنّ هدف الجمعية هو إنشاء مدرسة وطنية وليس مدرسة طائفية. وهذا ما دفع عدداً من الأثرياء المسيحيين إلى المساهمة بالتبرّع للجمعية مع ما جمعه تجار المدينة السنّة. وكانت المبادرة الأولى هي إنشاء مدرستَين للفتيات، ثم تبعتهما مدارس للفتيان، من بيروت إلى صيدا والنبطية وطرابلس وعكار والبقاع. وأكثر من ذلك، تجاوز صيت جمعية المقاصد لبنان ليبلغ يافا وحيفا وحلب ودمشق وغيرها من مدن إسلامية شامية.
من العسير تحديد أسماء الذين تخرّجوا من مدارس المقاصد على امتداد الأعوام الطويلة. بالتأكيد من بينهم رؤساء حكومات ووزراء ونواب وصحافيون وعلماء وباحثون وأطباء ومهندسون وضباط وصيادلة وأساتذة جامعيون وأدباء وباحثون ومعلمون وغيرهم... ويظلّ الأبرز علمياً من بينهم الشيخ عبد الله العلايلي، صاحب الآراء والمؤلفات الشهيرة. وخلال مسيرتها، باتت الجمعية تعبّر عن روح بيروت العاصمة بتنوّعها وانفتاحها وتوازن خطابها السياسي واعتدالها المنهجي. وعليه، فإنّ مدارس المقاصد تربوياً أقرب ما تكون إلى الميثاقية والدستورية بمعناهما الإيجابي، باعتبارها توافقية لا تغرس في تلاميذها روح التعصب والانغلاق مثلما تفعل مدارس عدّة تابعة لجمعيات محدثة وممولة من الخارج.
همس في الجمعية والمدينة
بالنسبة إلى البيروتيين، فإنّ الجمعية جمعيتهم مع أنّ عدد مدارسها الباقي في بيروت ثماني مدارس من أصل 38 مدرسة منتشرة في المناطق عموماً، لا سيّما الأقضية والمدن والبلدات السنيّة. وهذا الرقم الأخير يعادل ثلث العدد الذي وصلت إليه مدارسها سابقاً. والوضع الحالي مثار همس في صالونات المدينة وبيوتها، سواء أكانت فقيرة أم وسطى أم غنية. واللافت أنّ هذه الأزمة ليست الأولى التي تمرّ بها الجمعية، والحلول المرتقبة مثلما تظهر لا تسمن ولا تغني من جوع وأقلّ من مسكّنات. وكان سعد الحريري، المكلف بتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، قد تابع مجريات الوضع، وتحادث مع المفتي دريان، لكنّه لم يجد في جعبته سوى الطلب من وزير المال في حكومة تصريف الأعمال علي حسن خليل تحويل مبلغ خمسة مليارات ليرة لبنانية (نحو ثلاثة ملايين و300 ألف دولار أميركي) متأخرة للجمعية كانت بذمة الدولة اللبنانية لقاء دعم التلاميذ الفقراء، وهو مبلغ يُقال إنّه يكفي لدفع نصف المترتبات على الجمعية لصندوق التعاضد.
ويبقى بيت القصيد ما يتردد عن بيع أملاك تابعة للجمعية، خصوصاً العقار الذي تقوم عليه مدرسة خديجة الكبرى، وهو عقار يقع بمحاذاة شارع فردان (غربي بيروت)، أحد أكثر شوارع المدينة تطوّراً، وأسعار الأرض فيه الأغلى في لبنان. ويقال إنّ قرار الإقفال جرى اتخاذه، لأنّ الأرض بيعت بمبلغ مائة مليون دولار، ولم يعد الكلام مفيداً. أمّا في أوساط مجلس أمناء الجمعية، فثمّة من يتحدث عن خلل أوصل الجمعية إلى ما وصلت إليه، إذ إنّ الأزمة الراهنة أشد وطأة ممّا عرفته، معطوفاً على شح، إن لم يكن نضوب، المساعدات العربية التي كانت تتلقاها الجمعية للبقاء والصمود في ظل تراجع المداخيل من عقاراتها التي تحوّلت إلى أسهم في شركة "سوليدير" التي تعاني من شلل كامل.
اليوم، يجري الحديث عن تسييل أموال الهيئات والجمعيات والمرجعيات، وهي أملاك منذ جيل المؤسسين الذين حرصوا على فرز أراض من عقاراتهم لتأمين ديمومة المؤسسات. ينطبق ذلك على عقارات المقاصد والرهبانيات والمدارس الكاثوليكية والأوقاف الدرزية وغيرها، وهو اتّجاه يدفع نحوه السماسرة والمصارف وتجار العقارات كسبيل وحيد للخروج من المأزق. ويبقى القول إنّ المقاصد مهددة كجمعية ودور ورسالة ومؤسسات تعليمية، ولا منقذ لها ضمن المناخات الراهنة حتى الآن. ويتوجّب على جميع اللبنانيين الدفاع عنها وفتح دفاترها لتحديد المسؤول عن هذه النهاية الكارثية التي تطاول جمعية من أعرق الجمعيات الأهلية في لبنان، إن لم تكن الأعرق الباقية على قيد الحياة في الوسط الإسلامي.