مرضى داخل "زنازن" وأدوية فاسدة بمستشفى أمراض عقلية بالمغرب

31 ديسمبر 2016
يتجرّع المرضى مرارة الإهمال (الأناضول/Getty)
+ الخط -
خلف أبواب أقدم معلم استشفائي بالمغرب يقبع عدد كبير من المرضى النفسيين في مصالح شبيهة بالسجن، يتجرّعون مرارة الإهمال وضعف الرعاية الصحية، والاكتظاط داخل أبنية إسمنتية باردة إلا من حرارة الأطباء والممرضين الذين يعملون بضمير، وأيادٍ بيضاء تمتد بين الفينة والأخرى لتمسح الحزن عن وجوه اصفرت جراء تعاطي الأدوية والمسكنات.

على بعد نحو 40 كيلومترا من مدينة الدار البيضاء (كبرى مدن المغرب)، يستقر معلم استشفائي مهم يعود تاريخ تأسيسه إلى سنة 1919، وقد كان في بدايته مستشفى دولياً يضم مرضى من جميع الدول الأفريقية والأوروبية والمغاربية، كما كان يستقبل ضحايا الحرب العالمية الثانية، قبل أن يحمل اسم "الرازي"، أحد الرواد الأوائل في الطب الإسلامي. في مطلع الستينيات أصبح تابعاً لوزارة الصحة وتحوّل هذا المشفى الذي يتكون من 25 جناحاً ويضم نحو ألف مريض بشكل تدريجي إلى أشبه بـ " قلعة منسية" يعاني مرضاها الإهمال والتهميش.

بهيج، (50 عاماً)، لم يبق له من الاسم سوى ابتسامة يتحدّى بها واقعه، تحول إلى مساعد للمرضى بحكم طول المدة التي قضاها بين أسوار "جناح أبو السماح للرجال" الذي يعرف اكتظاظاً، فطاقته الاستيعابية لا تتعدى 40 سريراً، لكن عدد مرضاه يفوقه بكثير وقد يصل إلى 57 مريضاً، ما يجعل ظروف إيواء المرضى غير إنسانية ويضطر بعضهم إلى افتراش الأرض أو النوم في الممر، جراء استقبال هذا الجناح حالات من خارج الإقليم.

يعرف هذا الجناح اكتظاظاً (العربي الجديد) 



إلا أن هذا الجناح، وبحسب ما حكت مصادر من داخل المستشفى لـ "العربي الجديد"، شهد مؤخراً تحسناً نسبياً، بعدما تكفّلت به إحدى الجمعيات.

أما جناح "أبو السماح إناث" المحاذي له، فيضم نحو 50 مريضة، على الرغم من أن طاقته الاستيعابية لا تتجاوز 40 سريراً، 30 منهن يعانين أمراضاً مزمنة، وهن أيضاً من أصحاب الإقامة الطويلة التي تراوح من 30 إلى 40 سنة، فأغلبهن قضين أكثر من 35 سنة داخل الجناح دون أن يغادرنه ليوم واحد، حسب شهادة إحدى الممرضات التي تعمل في الجناح.

"ثورية" واحدة من هؤلاء "النزيلات"، مختلة عقلياً ومشهورة بين رفيقاتها بـ "توتو"، قضت في مستشفى الرازي أكثر من 10 سنوات، وهي دون أهل ولا أقارب كما صرحت لنا بذلك، بل إنها نسيت حتى اسمها الحقيقي.



لا تتذكر المريضة شيئاً عن ماضيها ولا أسرتها، ولا حتى أين عاشت، تشعر بالفزع كلما سمعت صوت الباب يغلق، لا تتمالك نفسها وتبدأ في الصراخ وهي تردد "أخرجوني من هنا، أريد أن أغادر، أنا لست مجنونة".

لا تتذكر المريضة شيئاً عن ماضيها (BSIP/Getty) 


بمسافة غير بعيدة عن هذين الجناحين، يستقر جناح أبو الجعفر، وهو خاص بالمرضى المتابعين من طرف النيابة العامة، في قضايا الضرب والجرح، وإضرام النار، والقتل العمد وغير العمد، والسرقة، يتم إيداعهم من طرف الوكيل العام للملك على صعيد خمس مدن بالمغرب، ويبلغ عددهم داخل هذا الجناح نحو 30 مريضاً.

وجوههم تتشابه من فرط تأثير الأدوية والحقن، فهي نحيفة وتميل إلى الصفرة، على أسِرّة متهالكة فوق أبنية إسمنية، تتوسطها مائدة عليها بقايا الخبز في قاعة باردة وكئيبة، علقوا أعناقهم يشاهدون مباراة لكرة القدم في تلفاز قديم مثبت في الأعلى حتى يبقى في مأمن من اضطراباتهم.

وجوه المرضى تنطق حزناً (ستيوارت فريدمان/Getty)


سعيد واحد من هؤلاء المرضى، في الأربعينيات من عمره، كان وجهه مكتئباً جداً، حكى لنا عن المعاناة داخل هذا الجناح، وأكد أنه يشعر أنه يعيش داخل "زنزانة"، فالأكل هنا رديء وتعافه حتى الكلاب، والأغطية لا تكفي، خاصة في فصل الشتاء، وهو نفس الرأي الذي شاطره إياه مريض آخر، مؤكداً أنه لولا عطف المحسنين لمتنا من فرط الإهمال.

أما مريض آخر، فاختار له عالماً آخر عبر صنع طائرات ورقية والحلم بالطيران ومعانقة الحرية، وعلى الرغم من أنه لا يتقن إلا لغة الإشارة، فقد عرض أمامنا "لعبة طائرة"، وهو يحركها نحو السماء متمنياً بدوره أن يحلق خارج أسوار المستشفى.

هم مرضى نفسيون ولجوا مؤسسة استشفاء عمومية، ما زالوا يتشبثون بالأمل في العلاج، على الرغم من المشاكل الكبيرة التي يعاني منها مستشفى الرازي، بحسب مصدرنا، من انعدام الكهرباء ليلاً والاكتظاظ وتجاوز الطاقة الاستيعابية للأجنحة، وغياب المتابعة الطبية، إذ إن الأطباء لا يحضرون السبت والأحد وفي العطلات للمداومة ويبقى المريض من دون أدوية ولا كشف طبي مختص حتى يوم الإثنين.

من مشاكل مستشفى الرازي الاكتظاظ (العربي الجديد)


كذلك الانقطاع المتكرر للأدوية في صيدلية المستشفى، وكمية الأدوية منتهية الصلاحية، إذ ترد كميات كبيرة من دواء تاريخ صلاحيته يخدم لشهر أو شهرين مما يرفع نسبة médicament périmé.

من ضمن المشاكل أيضاً، غياب الحراسة الأمنية للمرضى المودعين من طرف النيابة العامة، وهو الأمر الذي يشكل خطراً على المرضى والممرضين على حد سواء، وقد وقعت حالات فرار واعتداءات متكررة على الأطر الطبية.

غياب الرعاية والاهتمام بالمرضى (العربي الجديد)


وفي هذا السياق، دقّ المكتب الإقليمي للنقابة الوطنية للصحة العمومية بالمغرب، ناقوس الخطر، حول الوضع المزري لمستشفى الرازي. وأكد في بيان له على "الاكتظاظ المخيف على مستوى مصلحتي أبو سماح رجال وأبو جعفر للطب الشرعي النفسي، وما يصاحب ذلك من مخاطر على المرضى والعاملين خصوصا مع انعدام المراقبة الأمنية، الحرمان من مصلحة الصيانة، عدم وجود سيارة إسعاف، انتشار الأوساخ والعفونة، قلة الأسرة والأفرشة والأغطية.

وطالب المكتب كافة المسؤولين بالتدخل العاجل وإصلاح ما يمكن إصلاحه، من أجل مؤسسة صحية تحترم كرامة العاملين والمرضى.

ولمعرفة استراتيجية التعامل مع الإشكالات التي يتخبط بها المستشفى، اتصل "العربي الجديد" بمدير مستشفى الرازي الدكتور صليح مصطفى، وبمندوب وزارة الصحة بالإقليم بوشعيب عشاق، لكن دون أن يتلقى أي إجابات.

من جهته، أكد الدكتور محسن بنيشو الاختصاصي في الطب النفسي، أن بعض المؤسسات النفسية والعقلية أشبه بالسجن وربما أسوأ منه، جراء اعتماد المقاربة القديمة في التعاطي مع المريض النفسي وغياب الأنشطة الموازية.

ودعا بنيشو إلى تمتيع المريض بحقوقه كاملة، وضمان مورد رزق له، كما هو الحال في الدول الأوروبية التي تخصص منشآت صناعية للمرضى النفسيين، كما تضمن لهم راتباً شهرياً مع حقوق العلاج مجاناً، "لكن في المغرب لا شيء من هذا موجود، وحتى المصحات النفسية الخاصة على قلتها لا تمنح فرصة التطبيب لأصحاب الدخل المحدود نظراً لتكلفتها المرتفعة".

وإذا كانت مستشفيات الطب النفسي تسمى "حبس المهابيل"، فإن طريقة التعامل مع مرضاها يجب أن تتماشى مع معايير منظمة الصحة العالمية، في انسجام تام مع القواعد المعترف بها دولياً على مستوى الرعاية الصحية وتأهيل المرضى النفسيين وإخراجهم من حالة العزلة التي يعيشونها.

 

المساهمون