عربات الفقراء... قانون يقتل المتع الصغيرة للمصريين

16 ابريل 2018
الجميع عند عربة البطاطا (محمد عبد المنعم)
+ الخط -
كلّما ازدادت الأزمة الاقتصادية في مصر استفحالاً، لم تجد حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي غير لقمة عيش صغار الكسَبة أمامها. فقد أقرت، مؤخرا، قانوناً يحارب بائعي عربات الفول والبطاطا والحمص

يقف موظف بنك ببزّته الرسمية إلى جوار عامل بسيط يرتدي الجلباب ويحمل على كتفه مطرقة كبيرة، كما تقف إلى جانبهم سيدة موظفة في مكتب البريد المجاور. جميعهم يتناولون الوجبة نفسها المكونة من طبق من الفول المدمس مع البصل الأخضر، مستندين إلى رف صغير مثبت على عربة الفول التي تقف في أحد ميادين ضاحية "التجمع الخامس" في القاهرة الجديدة.

من يعرف مدينة القاهرة أو حتى زارها مرة واحدة يفهم ذلك المشهد، إذ يعتبر من المشاهد المميزة للمدينة المليونية الكبرى، إذ يتجمّع الناس صباح كلّ يوم، من جميع الشرائح المجتمعية، على عربات الفول المنتشرة في العاصمة، يتناولون فطورهم قبل التوجه إلى أعمالهم. يعتبر كثير من المصريين أنّه لا يوجد ما هو أشهى من تلك الوجبة الصباحية البسيطة. على هذه العربات، لا فارق بين غني وفقير، أو بين رجل وامرأة، أو بين موظف كبير أو عامل نظافة بسيط. فالكلّ سواء والمتعة واحدة.



قانون
متعة تناول الطعام في الشارع من العربات، لا تقتصر على الفول المدمس، أو كما يطلق عليه المصريون "فول العربية"، بل تشمل أيضاً العديد من الأطعمة الأخرى التي تشتهر بها المدن المصرية كافة، ولكلّ منها عربته، مثل عربة البطاطا الحلوة، وعربة الحمص أو "الحلبسة"، وهي عبارة عن حمص مسلوق يضاف إليه بعض الشطة والليمون الحامض، وعربة الذرة المشوية، وغير ذلك.

للبطاطا الحلوة و"الحلبسة" أيضاً طقوس خاصة في القاهرة، إذ لا تكتمل أيّ نزهة على كورنيش النيل إلاّ بتناولها، من إحدى العربات المنتشرة هناك. فهذا موظف بسيط يصطحب أسرته، وذاك شاب يتمشّى مع خطيبته، وجميعهم وقفوا يتناولون شرائح البطاطا الحلوة السخنة بتلذذ، بعد إضافة بعض "الدَّقة" إليها، وهي خلطة مكونة من الملح والشطة الحمراء (الفلفل).

لكنّ تلك المتع الصغيرة باتت مهددة الآن، بعدما أقرت حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر، أمس الأحد، قانوناً، قالت إنه يهدف إلى "تنظيم ظاهرة إشغال الطرق بعربات المأكولات وتوفير حلول تشريعية لها"، مؤكدةً أنّ "القانون يهدف إلى رفع الأعباء عن كاهل المواطنين وتوفير مناخ ملائم يتيح لهم الكسب".

القانون الجديد تعديل لقانون إشغال الطرق العامة رقم 140 لسنة 1956، وقد تضمّن مادة تجيز إصدار تصاريح مؤقتة لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد، للسماح لعربات المأكولات "الفول والكبدة... وغيرهما" بإشغال الطرقات العامة مقابل مبلغ يصل إلى 10 آلاف جنيه (نحو 570 دولاراً) نصف سنوية.

في تعليقه على هذا التعديل، استكثر النائب عبد السلام الشيخ، عضو لجنة الإدارة المحلية في مجلس النواب، المعنية بتسلّم مشروع القانون ومناقشته وإقراره، على المواطنين، تلك المتعة البسيطة، إذ قال إنّ "عربات المأكولات باتت ظاهرة تؤرق الدولة، ولا بد من تقنينها".




رسوم مرتفعة
يشترط القانون تسديد مبلغ 10 آلاف جنيه نقداً عند طلب التصريح. كذلك، يعطي القانون جهة إصدار التصريح الحق في وقف التصريح حال مخالفة شروط منحه، ويشترط لإصدار التصريح أن يكون "وفقاً لمقتضيات التنظيم والأمن العام والصحة والآداب العامة". وهو الأمر الذي يراه "عم سعد" بائع الفول الشهير في وسط القاهرة باباً للفساد والرشى.

"عم سعد"، الشهير بـ"سعد الحرامي"، والذي أصيب بأربع طلقات من الرصاص الحي في أثناء الثورة، وتحديدًا يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011، واحدة منها بترت إصبع السبابة بيده اليسرى، والثانية قطعت أذنه اليسرى، بينما دخلت الثالثة في جنبه الأيسر، واستقرت الرابعة في قدمه اليسرى، وبقي في المستشفى 8 أشهر، عاد بعدها ليقف على عربته، لكن بعدد ساعات أقل.

يقول لـ"العربي الجديد": "ليست لدينا مشكلة أن ندفع للحكومة، لكن بشرط أن تقدم لنا عربات بأقساط معقولة، وتوفر لنا أماكن لا تعيق حركة المرور، وتضمن لكلّ بائع مكانه المعروف والمحدد". يضيف: "المشكلة أنّ هذا الكلام إذا ما طبق، فإنّ أعضاء وموظفي المجالس المحلية سيأتون بأقاربهم ليشغّلوهم على العربات، فتكون التصاريح كلّها رشى، إذ إنّ المجالس المحلية مليئة بالفساد".

تعود تسمية سعد بـ"الحرامي" إلى تغلّبه على الفنان الكبير فريد شوقي في لعبة "الدومينو". كان سعد يلاعب أحد رسامي "الأفيش"، فجاءه الممثل الكبير فريد شوقي، وأخذ دوره ليلعب على 200 جنيه منه مقابل 20 من سعد، لكنّ سعد فاز بالخدعة عبر إخفاء قطعة، ثم تناول العشاء مع الثنائي في مكان فخم، وأخذ ما تبقى من المبلغ وهو 50 جنيهاً لنفسه، من دون أن يتقاسمها مع رسام الأفيش، الذي استغل فرصة طلب سعد له للكتابة على عربته فكتب: "يا ناس يا عسل... الحاج سعد الحرامي وصل"، وعاشت التسمية حتى يومنا هذا.

سعد يؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ البائعين في الأصل يعانون، ومن المحتمل أن يرفعوا أسعار الفول بعد تطبيق الرسوم الحكومية. يفسر: "يعاني البائعون طول الوقت من مضايقات الشرطة، فكلّ يوم يطلب أمين الشرطة من البائع الغلبان بطاقة شحن لهاتفه المحمول أو علبة سجائر أجنبية أو غير ذلك، والغلاء أصلاً لم يترك الناس في حالها، عدا عن كون معظم البائعين يستأجرون عرباتهم ولا يملكونها".



لسنا بلطجية
تتراوح أسعار العربات الجديدة بين 5 آلاف جنيه و10 آلاف، بحسب الحجم ونوع الخشب والصلب المستخدم في صناعتها، بينما يصل إيجارها إلى 500 جنيه، أما المستعمل فيصل سعره إلى 3 آلاف جنيه. وينص القانون على أنّ "لوحدات الإدارة المحلية أو أجهزة المدن بهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، بحسب الأحوال، إصدار تصاريح مؤقتة لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد لإشغال الطرقات العامة، وذلك وفق الشروط والأوضاع والأماكن التي يصدر بها قرار من المحافظ المختص أو رئيس الجهاز المختص، كلّ في ما يخصه، وفقاً لمقتضيات التنظيم، والأمن العام، والسكينة العامة، والصحة، والآداب العامة، والتنظيم المروري، والتنسيق الحضاري، والمحافظة على البيئة. ويدفع طالب التصريح عند تقديم الطلب رسم إشغال بحسب نوع الأماكن والطرقات وطبيعة الإشغال والنشاط، بما لا يتجاوز عشرة آلاف جنيه تسدد نقداً". ومن المنتظر أن يبدأ تطبيق هذا القانون على عربات الفول والكبدة، والفشار، والبطاطا الحلوة، وغيرها في شوارع القاهرة والمحافظات.

يذكر أنّه في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي 2017، وقعت حادثة أثارت جدلاً كبيراً في وسائل الإعلام، وهي قيام المذيعة ومقدمة البرامج، بسمة وهبة، بطرد أحد أصحاب عربات الفول من المكان الذي كان يقف عند أسفل البناية التي تسكن فيها بميدان الدقي، وذلك باستغلال "نفوذ" زوجها، عضو مجلس النواب، ورئيس لجنة حقوق الإنسان في المجلس، لواء الشرطة السابق علاء عابد. وقال أحمد، مالك العربة، في تصريحات صحافية، إنّه يبيع الفول في منطقة الدقي لكسب رزقه منذ 10 سنوات، مشيراً إلى أنّ وهبة طالبته بترك المنطقة من دون إبداء أيّ أسباب. وأوضح أنّ مباحث قسم الدقي بعد ذلك جاءت إليه وأمرته بالرحيل من المنطقة. علق على هذا الأمر بأنّه ليس بلطجياً أو يمارس أيّ عمل غير مشروع، لكنّه يعمل بالحلال لكي يستطيع أن يوفر الطعام لأولاده، مؤكداً أنّه ذهب إلى وهبة كي تسمح له بالبقاء في المنطقة لكسب رزقه، فرفضت الاستماع إليه.




من جهتها، رصدت صفحة "موفز بلايسيز" على "فيسبوك"، أشهر عربات الفول المصرية التي يتهافت عليها المواطنون، وكانت أولها عربة "خالد ومبي" في شارع الوحدة في إمبابة، ثم عربة "سعد الحرامي" في المرتبة الثانية في منطقة وسط البلد في القاهرة، التي تعدّ سندويشات الفول السريعة للمستعجلين، ولدى العربة صفحة عبر "فيسبوك" هي الوحيدة من نوعها. أما عربة "محروس" فتقع في أرقى أحياء مصر، حي "جاردن سيتي"، ويصطف الناس في طوابير أمام عربته في رمضان، لكنّ أهم ما يميز المكان أنّ الفتيات والأجانب يمكنهم الجلوس لديه براحة من دون التعرض إلى مضايقات أو سخافات، بحسب الصفحة. وعن عربة "الجحش"، قالت الصفحة إنّها أشهر عربات بيع الفول في مصر، وتقع في حي السيدة زينب. وتقدم الفول بثلاثة أصناف؛ بالزيت الحار والزيتون الحلو والزبدة، بالإضافة إلى الطعمية والمخلل والبطاطس، وتعمل العربة التي تحولت إلى كشك، 24 ساعة في اليوم، وقد تنتظر طلبك وقتاً أطول من وقت تناول وجبتك. وهناك عربة "حمادة شيراتون" التي تطورت من عربة فول إلى مطعم للفول والفلافل يقصده كثيرون، بعدما ذاع صيتها، وباتت مقصداً لكثير من أبناء الأغنياء والطبقة المتوسطة، في حي شيراتون الراقي.
دلالات