أنطوان العَلَم.. رسّام يعيش بين الزجاج لجذب الضوء وبعثه

25 يونيو 2016
ليس احتقاراً للجسد بل تفضيلاً للروح (سميح زعتر)
+ الخط -
يعيش الرسام اللبناني أنطوان العلم في محترفه الذي لا تغيب عنه الشمس، حتى ليبدو كأنه كائن من ضوء. يعيش الحياة الحقيقية، بين السماء والأرض

لاحظت أنّني في المرّتين اللتين زرته فيهما، كنت آتي من دون ساعة يدي، التي قلّما أخلعها. ربّما هي رغبة بالتفلّت من القيود الماديّة احتراماً للمكان المتفلّت من القيدين، المادي والفكريّ. لكنّني أعود وأتذكّر أنني كنت أضع سواراً برونزياً. هي إذاً رغبة في الهروب من الوقت والتعداد والخوض في الجمال. في محترفه، بدا أن الديكور البسيط اختير بعناية. ما من ساعة معلّقة على الحائط تدلّ الفنّان أو روّاده على الوقت. كلّ حائط مسكون بنافذة تُفتح أو زجاج يسمح للضوء بالدخول. لا حاجة له لأن يُزيَّن بساعات.

محترف الرسام وفنّان الزجاج، أنطوان العلم، في زغرتا مصمّم في الأصل بحسب دورة الشمس. والمفارقة أن الضوء يعبر المحترف بشكل خجول في فصل الصيف ليفيض بداخله في فصل الشتاء، خصوصاً أنّ الفنّان حرص على زراعة الأشجار التي تتساقط أوراقها شتاء. يُخيّل، أيضاً، لمن يعرفه أن العَلَم نفسه خلق في الأصل بحسب دورة الشمس. هو كائن من ضوء، يمتصّه من خلال ثيابه السود ليعود ويبعث شعاعاً من حوله. يعيش حياته على إيقاعه. يستيقظ عند بزوغ الفجر أو قبله ليكون شاهداً عليه. يخصّص النهار للرسم والليل للعمل على الزجاج.

يعيش العلم في الزمن لا في حسابات الوقت. هذه الحالة يعبّر عنها، بالصورة الأوضح، من خلال عمله على الزجاج. المعنى الذي يصل إليه من خلال الضوء يتجاوز فكرة الزمن. في هذا السياق، يعلن من محترفه، موت اللوحة التقليديّة. يقول: "العمل الفني ارتجال حيّ لا يُجسَّد في لوحة وأحجام غير مرتبطة بمدى معيّن على جدار". بحسب العَلَم، لا يوضع الأفق الكبير في وعاء صغير، إنما من الوعاء أو الحجم يحدث الانفتاح إلى ما هو مُطلق. فالمعنى الذي يوصله الفنّان من خلال الضوء في عمله على الزجاج هو أبعد من تسجيل للحظات. الزجاج عمل متحرّك ومتحوّل يحتوي على جميع اللحظات ويبقى موعوداً بلحظات مقبلة. إلا أنّه يطمح للوصول إلى مرحلة يعمل فيها من دون مواد. كيف؟ يقول إنه لا يعرف بعد، لكنّه، على ما يبدو، يبحث عن "الألوهيّة في الإنسان".

يبقى الزجاج رابطاً بين السماء والأرض، بين الداخل والخارج. ومتى عبره الضوء، اتّحد العالمان. يقول العلم إنّ هذا الاتحاد يترك أثراً. يضيف: "هذا الأثر، إذا ما شعرتِ به يعبر جسدك، يخطف الأنفاس". وبالفعل، بينما كنت أنزل السلالم المؤدّية إلى الطابق السفلي، والتي تفضي إلى جدار يخترقه زجاج أزرق اللون من أعماله يعبر من خلالها الضوء إلى الداخل، شعرت متى استقرّ شعاعها على جسدي أنني متحوّلة في مشهد جميل.

للطابق السفليّ من المحترف ألوانه التي تجمع المكان وتلملمه فتشعر أنّه يضيق. يلفّك ويتكوّر من حولك فتصغر أنت إنما يتّسع نفسك. أنظر إلى السرير الضيق جداً الذي يبدو لي أنّه لا يتّسع لراحة الليل القصير، ويساعدني العَلَم على تذكّر ماض يجمعنا نحن، أبناء المنطقة، على الرغم من أننا لم نعشه. الذاكرة الجماعية التي تسكننا وتعيدنا إلى وعورة الجبال، إلى وادي قنوبين، الى الهويّة الأصليّة "إنها علاقة السماء بالأرض، والحياة مع الأرض في الجبل".


بحسب العَلَم، نمط حياة الجبليّين، يرتكز على الاختزال لا الاختصار، أن يكون عندك كل شيء وألّا تمتنع عن أي شيء، بل تحمل الكلّ وتعصره ثم تكتفي باللب. يستقرّ نظري على الجدران حيث تتكئ لوحتان عملاقتان لامرأتين عاريتين. أسأله: "وماذا عن النساء العاريات؟"، فيجيبني: "أي نساء عاريات؟" لا يرى أنّ الجسد الذي يرسمه عارٍ. فهذا الجسد هو في حالته المجرّدة لا العارية. وفي نمط حياته، إذا كان يبتعد عن الرفاهيّة، فالدافع ليس احتقاراً للجسد بل تفضيلاً للروح. على العكس تماماً، هي محاولة للانطلاق من الجسد المَسكَن إلى ساكن الجسد أي الروح.

تمتلئ المدن الكبرى في لبنان بصالات العرض المختلفة التي تقدم أعمال الرسامين التشكيليين. ويبدو مثل ذلك هدفاً للكثيرين من هؤلاء بالفعل، لكنّه ليس كذلك بالنسبة إلى العلم. يشير إلى أنّه لا يعمل بهدف العرض، أو المشاركة في المعارض، لافتاً إلى تغيّر أسلوب أصحابها في التعاطي مع الفنّانين على الرغم من أّن الفنّ واحد منذ الأزل. يقول إن "الدنيا في حد ذاتها معرض مستمرّ". يتّفق مع آراء الكاتب أنطوان الدويهي، الذي عبّر عنها في نص نشر له في "العربي الجديد"، وينتقد فيه "الزهد التام بالشهرة والجهود الإعلامية والدعوات والمآدب والتكاذب". في النصّ نفسه الذي يتطرّق فيه إلى محترف العَلَم، يصفه الدويهي، بدقّة اختياره للتعابير، بأنه "ملجأ الروح". هذا المحترف نفسه الذي لا يعود له من معنى في غياب العلم، هو محاولة للانطلاق من المُحترف المَسكن إلى ساكن المحُترف.. أنطوان العَلَم الذي هو ملجأ الروح.