الزيادة الحكومية المتواصلة في أسعار السجائر في فرنسا التي تصل إلى مستويات قياسية أوروبياً وعالمياً، بدأت البلاد تجني ثمارها، من خلال انخفاض نسبة التدخين، خصوصاً بين الشباب.
شهدت فرنسا، في بداية شهر مارس/آذار الجاري، زيادة في أسعار السجائر. وقد صدر مرسوم وزاري من وزارة الصحة والحسابات العمومية بذلك. تراوحت هذه الزيادة بين 5 و8 في المائة، ليصل سعر علبة "مارلبورو" إلى 8 يورو و80 سنتاً، وعلبتي "غولواز" و"جيتان" الفرنسيتين، إلى 9 يورو و50 سنتاً، و9 يورو و90 سنتاً، على التوالي.
تأتي هذه الزيادات للوصول عام 2020 إلى ثمن 10 يورو للعلبة الواحدة، كسعر متوسط. ويتعلق الأمر بالمراجعة الثامنة لأسعار السجائر، بما فيها تعديلات للأسعار أجراها المصنّعون، منذ وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الحكم. وحتى يصل سعر العلبة إلى 10 يورو برمجت الحكومة 3 زيادات أخرى مقبلة: 50 سنتاً في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، و50 سنتاً في مارس/آذار 2020، و40 سنتاً في نوفمبر/تشرين الثاني 2020. وإذا كانت هذه الزيادات لا تروق للمدخين الذين يرون فيها ضرباً متواصلاً لقدرتهم الشرائية، فالحكومة تريد منها أن تحث كثيراً من مواطنيها على التوقف عن التدخين، خصوصاً أنّ الأمراض المترتّبة عنه تتسبب في وفيات كثيرة، كما أنها تكلّف الخزينة غالياً، سواء تعلق الأمر بإنفاق وزارة الصحة أو بساعات العمل الضائعة بسبب المرض والتغيب.
الحكومة الفرنسية تسير في الطريق الصحيح، فقد كشفت الإدارة العامة للجمارك عن انخفاض في بيع السجائر، في شهر يناير/كانون الثاني 2019، بنسبة 8.50 في المائة، على امتداد سنة كاملة. وبما أنّ سياسة رفع أسعار السجائر بدأت قبل سنوات، فإنّ استهلاكها في انخفاض متواصل، ففي سنة 2018 انخفضت المبيعات بنسبة 9.32 في المائة مقارنة مع سنة 2017. والحقيقة أنّ هذا الانخفاض المتواصل في بيع السجائر له تفسيرات عديدة، فبالإضافة إلى هذه الزيادات المتكررة في ثمنها، فالنجاح المتعاظم للعلاج باستخدام بدائل النيكوتين لعب دوراً كبيراً في حث المدخنين على التوقف، بالإضافة إلى حظر التدخين في الأماكن العامة، وفي ملاعب الأطفال، ثم إنشاء صندوق للوقاية من التدخين بميزانية 32 مليون يورو.
وتعتبر فرنسا، بحسب توصيف وزارة الصحة الفرنسية، مريضة بالتدخين، فأكثر من ثلث الفرنسيين يعترفون بأنّهم مدخّنون، وهو ما يتسبب في وفاة ما يقرب من 80 ألف شخص سنوياً (أي ما يعادل 200 شخص يومياً)، ومن هنا يمكن فهم هذه الإجراءات التي تبدو قاسية.
في جولة لـ"العربي الجديد" في عدة مقاهٍ وساحات باريسية وفي الضاحية الباريسية، لاستطلاع آراء الناس حول تأثير هذه الزيادات المتواصلة عليهم، كانت الأجوبة مختلفة. فأحمد (62 عاماً) يقترب حثيثاً من سن التقاعد، ويدخّن منذ عشرين سنة، لكنّه لم يعد قادراً، بسبب ظروفه المالية الصعبة، على شراء علبة تقترب من 10 يورو، فتوقف قبل أيام: "توقفتُ، ليس رغبة في ذلك، إذ ما زلت أشتهي السيجارة، بل لأنّ ميزانية بيتي لا تحتمل، وأراني أظلم حقوق أبنائي إن واصلت". من جهته، يعترف جواد (47 عاماً) وهو سائق تاكسي، بأنّه لن يتوقف عن التدخين، لمجرد أنّ ثمن العلبة سيصل قريباً إلى 10 يورو، فهو قادر على تحمل الزيادات، بل لأنّه رأى أخيراً أحد معارفه مصاباً بسرطان الحنجرة، بسبب سنوات طويلة من التدخين.
تحاول وزارة الصحة الفرنسية استغلال هذه النتائج الكارثية التي يسببها التدخين، عبر إعلانات صادمة، ووضع صور لا تحتمل على علب السجائر، لكنّ كثيراً من المستهلكين تأقلموا معها. وهو ما يقوله بوشعيب (70 عاماً): "لم أعد أقلب العلبة، مثلما كنت أفعل، في السابق، حتى لا أرى الصور. أدخّن منذ أكثر من خمسين سنة، ولن يستطيع إعلان ثنيي عن التدخين. ربما الطبيب، ومعه نداءات زوجتي الملحّة، يستطيع ذلك، وقد بدأ يخيّرني بين السيجارة والموت، وبين التوقف عنها والفوز بسنوات إضافية".
الطريف أنّ كثيراً من الشباب والمراهقين أقلعوا بين عشية وضحاها عن التدخين، بسبب هذه الزيادات، فميزانياتهم البسيطة لا تسمح لهم بشراء علبة كلّ يوم، أي 250 يورو شهرياً. وهي حالة سعاد (19 عاماً)، طالبة جامعية، سنة أولى، اقتصاد: "بدأت التدخين في سن السادسة عشرة، لكنّي لا أستطيع شراء علبة سجائر كلّ يوم. لديّ أولويات، والـ600 يورو التي يوفرها لي والدي شهرياً، وبصعوبة، لا تكفي لإيجار الغرفة الجامعية، والأكل، والمواصلات".
ثمة مدخنون اختاروا مواصلة التدخين، فقرروا تجريب السيجارة الإلكترونية، كما هي حال عبد الرزاق، وهو أستاذ جامعي. يبرر خياره بأنّ كثيراً من الأماكن العامة ما زالت تسمح بتدخين هذا النوع من السجائر. ثمة أيضاً من انحاز إلى سيجارة اللف بسبب ثمنها المنخفض قياساً بعلب السجائر، وهي حالة الشباب، فكبار السن غير المجربين لا يستطيعون أن يقلدوا مهارات الشباب.
وبالإضافة إلى كلّ هؤلاء هناك من لا يرى نفسه قادراً على تغيير عاداته، فيتدبر أمره من مصادر مختلفة، خصوصاً من يقيم في مناطق قريبة من الحدود الدولية، مع بلجيكا وإيطاليا، إذ إنّ ثمن العلبة نحو 6 يورو و5 يورو، أو إمارة أندورا، 4 يورو، وهي أسعار السجائر الأرخص في القارة الأوروبية. لكنّ الحكومة الفرنسية واعيةٌ بهذا الأمر، فرجال الجمارك ينشطون في مراقبة الحدود ويمنعون الفرنسيين، الهاربين من غلاء الأسعار في بلادهم، من إدخال كميات كبيرة منها من تلك الدول، خوفاً من إعادة بيعها في فرنسا.