وثائق وفاة سوريّة... النظام يقتل المعتقلين ولا يسلّم جثثهم

22 يونيو 2019
... لكنّ كثيرين منهم لن يعودوا (محمد النجار/ Getty)
+ الخط -

رؤية جثّة الميت أمر لا بدّ منه حتى يسلّم ذووه بأنّه قضى وينجزوا حدادهم. لكنّ أهالي المعتقلين السوريين محرومة من ذلك، ولا تحصل إلا على وثيقة من الورق.

مئات العائلات في سورية صُدمت أخيراً بوثائق وفاة صادرة باسم أبنائها المعتقلين منذ أعوام في سجون نظام الأسد. هي حصلت على إفادات تؤكد أنّ هؤلاء قضوا من دون أيّ جثث، فحرمت من نظرة وداع أخيرة عليهم. وقد رصدت منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة" 700 وثيقة وفاة لمحتجزين في دائرة السجل المدني في حماة وريفها منذ مطلع عام 2019 وحتى يونيو/ حزيران منه، تزامناً مع وثائق مشابهة وصلت كذلك إلى ذوي معتقلين في إدلب، الأمر الذي تسبّب في فاجعة للأهالي.

عامر الخطيب واحد من هؤلاء الذين تلقّت عائلاتهم وثيقة من وثائق الوفاة تلك، وقد ورد اسمه من ضمن السلسلة الرابعة من أسماء المعتقلين المتوفين. يقول شقيقه قتيبة لـ"العربي الجديد": "أخي عامر من مواليد مايو/ أيار من عام 1988، وهو أبصر النور في رأس الخيمة في الإمارات العربية المتحدة"، ويذكر كيف "رفض عامر دراسة الطبّ واختار الهندسة المدنية، هو الذي أحبّ أن يكون مهندساً منذ صغره وليس طبيباً. وبالفعل تفوّق في دفعته بكلية الهندسة المدنية في جامعة حلب". يضيف أنّه "مع بداية ثورات الربيع العربي، كان الطلاب في مقدّمة المتظاهرين، وهكذا كان عامر. هو من أوائل المشاركين في التظاهرات التي خرجت من جامعة حلب، تظاهرات المكتبة المركزية وغيرها، وبقي ينسق التحركات في الجامعة مع شبان هناك بحسب شهادات أصدقاء له".

ويتابع قتيبة أنّ "عامر اعتقل في بداية الثورة في سورية، للمرّة الأولى في إبريل/ نيسان 2011 مع أخي الطبيب أنس من قبل الأمن العسكري في حلب، لنحو ثلاثة أشهر. كان النظام حينها ينقل المعتقلين إلى محافظاتهم، فنقلهم بعدها إلى فرع الأمن العسكري في إدلب. تمكّنا حينها من إخراجهما بوساطة، إذ إنّ تلك الأمور كانت تجدي نفعاً حينها. أطلق سراحهما ووقّعا على تعهّد بعدم المشاركة بتظاهرات من جديد. لكنّ أحداث الثورة راحت تتسارع حينها، وبدأ الأهالي يحملون السلاح في وجه النظام، خصوصاً بعد اقتحام قواته مناطق في معرّة النعمان وغيرها. لكنّ عامر رفض التسلّح، فهو كان يؤمن بمدنية الثورة. كان يرفض قطعاً حمل المدنيين السلاح. بالنسبة إليه فإنّ المنشقين عن قوات النظام هم الذين يحملون السلاح فقط، إذ إنّهم في الأساس مقاتلون متمرّسون. وظلّ على موقفه الرافض حمل الأهالي السلاح والتنقّل في الشوارع، وقد رأى في ذلك إساءة للذين ذهبوا بصدورهم العارية لمواجهة النظام".




ويكمل قتيبة أنّ "عامر كان حينها في سنته الجامعية الخامسة، فقرّر المضيّ قدماً بدراسته. تابع الفصل الدراسي الأول وحقّق نجاحاً في المواد كافة قبل أن يقدّم أربع مواد إضافية لمشروع تخرّجه. لكنّه اعتقل للمرّة الثاني في 22 مايو/ أيار من عام 2012 من قبل الاستخبارات الجوية. انقطعت أخباره إلى حين خروج صديقه مازن درويش من السجن، فأخبرنا أنّ عامر لدى الاستخبارات الجوية وقد تعرّض للضرب والتعذيب". ويشير قتيبة إلى أنّه "اعتقل بدلاً من أخي الطبيب أنس. وللأسف كان الاعتقال على خلفية تقرير أمني لم يفرّق به عميل النظام حينها بين عامر وأنس، كونهما متقاربَين في السنّ (عام واحد فقط يفصل بينهما) وهما متشابهان كثيراً. بعد ذلك عرفنا أنّه نقل من حلب إلى اللاذقية، ثمّ من اللاذقية إلى مطار المزّة في دمشق وبعدها إلى صيدنايا فالمزّة مجدداً قبل أن ينقل مرّة أخرى إلى سجن صيدنايا. طوال سنوات حاولنا إخراجه من الاعتقال، حتى وصلتنا أخبار تفيد بأنّ عامر أعدم في خلال محكمة ميدانية بتاريخ 21 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2016. حصل ذلك قبل أيام، وقد بلغني الخبر عن طريق والدي وخالي. ورحنا نفكّر بكيفية إبلاغ والدتي بوفاة عامر".

تلقّى والد عامر الخبر "بصبر"، مثلما يوضح قتيبة، "فهو كان يعلم أنّه قد يموت في المعتقل. هو سبق أن عرف تجارب قاسية أخرى، عندما قضى أخ له 24 عاماً في سجن تدمر في حين أعدم آخر، يُدعى عبد القادر الخطيب، في مجزرة تدمر في عام 1980. كذلك توفي أخوان آخران له في المنفى، في حين ما زالت أخته منفية". أمّا الوالدة، فكانت بحسب ما يخبر قتيبة "في عزاء جارة لنا في سراقب وكانت حزينة على موتها إذ إنّها عزيزة عليها. ومساءً، قال والدي إنّه لا بدّ من إخبارها، فزرناها أنا وأخي أنس. سألتنا عن سبب حزننا، فأبلغناها أنّ عامر قُتل في المعتقل. بكت كثيراً وعبّرت عن صدمتها بذلك بعد سنوات من الانتظار، ثمّ قالت إنّها ما كانت لتحزن هكذا لو أنّه قتل وهو يدافع عن نفس على جبهات ريف حماة". ويلفت قتيبة إلى أنّ عامر ردّد مراراً بحسب ما نُقل عنه: خرجنا لنيل حريتنا والتعبير عن آرائنا بمنتهى الصراحة، ونقد من نشاء بطريقة بنّاءة تجعل من سورية دولة ديمقراطية متقدّمة، تتوافق على نظرائها العرب، ولن نسكت أو نتراجع حتى تتحقق المطالب".

"الحرية للمعتقلين" في تظاهرة سابقة (أحمد الإسلام/ Getty)

عبد الله مازن السعود لقي المصير نفسه كما عامر الخطيب. يقول شقيقه عمر السعود لـ"العربي الجديد" إنّ "شقيقي من مواليد مدينة معرّة النعمان في عام 1989، اعتقل بعد إنهائه المرحلة الثانوية واستعداده للالتحاق بكلية الآداب في جامعة حلب، قبل انطلاق الثورة السورية، وذلك على خلفية حساب له على موقع فيسبوك تحت اسم: أعطني حريتي أطلق يدي. هو كان من الشبان الذين شجّعوا على الثورة في سورية، وما زال حسابه القديم فعالاً على فيسبوك بالاسم نفسه". يضيف أنّ "عبد الله خرج من السجن بعد 55 يوماً، مع صديق له اسمه أدهم بيطار، وذلك بعد اعتقالهما بتهمة التحريض على التظاهر. وفي 21 فبراير/ شباط من عام 2012، اعتقل للمرة الثانية، علماً أنّه نشط كثيراً في خلال الفترة الممتدة ما بين خروجه من المعتقل واعتقاله من جديد. كان يظهر إعلامياً باسم أوس البنا وهو كان من بين المحضّرين للمجلس الوطني". ويتابع عمر أنّه "اعتقل على طريق حلب - دمشق مع أخي عبد الرحمن، فيما اعتقلت أنا بدوري بعد يومَين ليُفرَج عنّي بعد أسبوع أمّا أخي عبد الرحمن فقد خرج من المعتقل بعد 99 يوماً". ويكمل: "في إبريل/ نيسان الماضي، صُدمنا بخبر وفاة عبد الله في المعتقل. بحسب وثيقة الوفاة التي أصدرها النظام، فهو قضى في 14 إبريل/ نيسان من عام 2015"، مشدداً على أنّ "عبد الله كان من بين الثوّار المعروفين في المنطقة. هو كان ثائراً ويحبّ الثورة وقد ضحّى بنفسه من أجلها".

وكما عامر وعبد الله، قضى مأمون ص. في سجون النظام كما يؤكّد أحد أقاربه لـ"العربي الجديد". يقول: "اعتقل مأمون ولُفّقت له تهم عدّة. هو أب لستّة أطفال، وقد عمل في منظمة إنسانية قبل اعتقاله. وصلتنا أنباء عن وفاته عن طريق محامية موكّلة بقضيته في عام 2018، لكنّ أيّ وثيقة وفاة لم تصلنا حينها. أخيراً، حصلنا على وثيقة، علماً أنّه حكم وجرّد من كل حقوقه المدنية وحتى من التعويض الوظيفي". يضيف: "كان خبر وفاته صادماً لنا ولزوجته وبناته الخمس وابنه، ونرجو لغيره من المعتقلين في سجون النظام ممّن هم أحياء أن تُكتب له النجاة من الموت".




في السياق، يقول المحامي أنور البني، وهو رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، لـ"العربي الجديد": "من الواضح أنّ النظام كلّما اشتدت الأمور عليه وزادت المطالبات المتعلقة بموضوع المعتقلين، يكشف عن دفعة من وثائق الوفاة. وهو يقصد بها رسالتَين، الأولى أنّه على المطالبين نسيان هؤلاء المعتقلين، فهم ماتوا. أمّا الثانية فتفيد بأنّ من بقي على قيد الحياة قد يُقتل في أيّ لحظة". يضيف البني: "للأسف، حتى الآن، فإنّ كل الجهود المبذولة في الأمم المتحدة وجنيف لم تؤدّ إلى أيّ نتيجة مع هذا النظام غير المعني بالقانون الدولي، ولديه قناعة بأنّ الانتصار العسكري الساحق فقط هو ما يعيد إليه الشرعية ويجبر العالم على التعامل معه من جديد، بغضّ النظر عن كل الجرائم التي ارتكبها". ويشير البني إلى أنّ "النماذج السابقة تدفعه إلى التفاؤل، لكن ما قمنا به لجهة ملاحقة المجرمين سبّب له مقتلاً في هذه النقطة بالذات. ونأمل فعلاً أن يكون الأمر كذلك، وأن نتمكّن من منع إعادة الشرعية إليه تحت أي ظرف من الظروف".