عدد المسلمين في فرنسا تتجاذبه الأطراف، خصوصاً اليمين المتطرف الذي يهوّل كثيراً ويبالغ في الحديث عن عشرين مليون مسلم. الحقيقة الوحيدة أنّ هذه الأقلية الكبيرة تعاني الكثير من التمييز.
مع اقتراب الانتخابات الفرنسية يعود الجدل حول الإسلام في فرنسا. هو جدل يعود إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي، حين قرر المهاجرون من المغرب العربي، في غالبيتهم، الذين كانوا يعملون في فرنسا ثم يعودون نهائياً إلى بلدانهم، أن يستقروا في فرنسا، فمنحوا أبناءهم وأحفادهم الجنسية الفرنسية.
بذلك، باتوا "أقلية مرئية" بعدما كانوا يتحسسون الجدران، بخوف وتوجس كبيرَين. وليس الأمر عائداً إلى رفضهم الاندماج، كما يذهب إلى ذلك غلاة اليمين، ومن بينهم الكاتب رونو كامو أو الصحافي إيريك زمور، فهو مجرد اتهام غير صحيح، كما يكتب المفكر والخبير الديموغرافي إيمانويل تود في كتابه: "من هو شارلي؟". يقول إنّ المسلمين أكثر اندماجاً من كثيرين ومن بينهم زمور نفسه، وإنّهم يتزوجون من فرنسيين ولم يعودوا سجناء جماعتهم.
ينطلق كثير ممّن يرون حضوراً يفوق التحمل للإسلام في فرنسا من نظرية "الاستبدال الكبير" لرونو كامو، التي تتلخص في أنّ "تزايد عدد المسلمين سيجعل، في بضعة عقود، السكان الفرنسيين أقلية في بلدهم وسط أغلبية مسلمة". وهي نظرية يتبناها إيريك زمور في كتاباته، وهو الذي أعاد التذكير، قبل سنتين في صحيفة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية، بما كان قد كتبه في مؤلفه "الانتحار الفرنسي" عن أمله في ترحيل نحو 5 ملايين مسلم من فرنسا. برر ذلك برفض هؤلاء العيش "على الطريقة الفرنسية"، وبسبب "عيشهم في الضواحي، أرغم الفرنسيون على مغادرة هذه المناطق". وهو ما جعله يصل إلى خلاصة مخيفة: "وضعية شعب داخل شعب... مسلمون داخل الشعب الفرنسي (ينفي زمور عن المسلمين صفة الفرنسيين) ستقودنا إلى الفوضى والحرب الأهلية".
عدد المسلمين
حين يحاول الباحث في فرنسا معرفة العدد الحقيقي للمسلمين، وعدد المسلمين الفرنسيين منهم، يصطدم بعقبات سياسية لا يمكن القفز فوقها، تتمثل في حظر أي إحصاء "رسمي" على أسس دينية أو إثنية. القانون الذي صودق عليه سنة 1872 والذي جرى تعديله يوم 6 يناير/ كانون الثاني 1978 يحظر "جمع أو معالجة معطيات ذات طابع شخصي، تُظهر، بشكل مباشر أو غير مباشر، الآراء السياسية والفلسفية والدينية" باستثناء بعض المؤسسات العمومية، وبشروط بالغة الصعوبة.
يطلب كثير من الباحثين والمختصّين من السلطات الفرنسية الترخيص بإحصاءات إثنية، ومن بينهم جان - بول غوريفيتش، (كاتب ومستشار دولي فرنسي في شؤون الهجرات)، الذي يبرر الطلب بالآتي: "أولاً، لأنّ العديد من الدول تسمح بمثل هذه الإحصاءات، وفرنسا استثناء في الأمر. ثانياً، إذا أردنا معرفة دقيقة بسكاننا، بل وأردنا مكافحة التمييز الذي يضرب السكان من أصول أجنبية، فعلينا أن نبدأ بالإحصاء".
النتيجة هي أنّنا أمام أرقام متناقضة، والفرق بينها صارخ أحياناً. عام 1998، صرح عمدة مسجد باريس الكبير دليل بوبكور، أنّ المسلمين يمثلون 10 في المائة من سكان فرنسا. وعام 2007 كتبت المجلة الفرنسية "عالم الديانات"، أنّ عددهم 2.46 مليون نسمة. وعام 2008 أكدت دراسة للباحثة الديموغرافية ميشيل تربيالات أنّ عدد مسلمي فرنسا هو 4.2 ملايين نسمة. وعام 2010 كشف مركز "بيو" الأميركي للدراسات عن رقم 4.7 ملايين نسمة، فيما تحدثت وزارة الداخلية والديانات، في العام نفسه، عن ما بين 5 ملايين مسلم و6 ملايين. كذلك، دخل حزب الجبهة الوطنية المتطرف، عام 2010 على الخط، فتحدّث في نشراته عن 8 ملايين مسلم. أما موقع "مقاومة جمهورية" اليميني فكتب يوم 12 أغسطس/ آب الماضي أنّ ثلث الفرنسيين مسلمون، أي أكثر من 20 مليون شخص. وكان الزعيم اليميني جان - ماري لوبين قد تحدث عام 2014 عن ما بين 15 و20 مليون مسلم في فرنسا. وهو ما ذهب إليه أيضاً، في السنة نفسها، عالم الاجتماع والوزير السابق المكلف بتساوي الحظوظ، العربي الأصل، عزوز بقاق، حين قال: "عام 2011، كان في فرنسا ما بين 15 و20 مليون مسلم". لكنّ معهد "مونتين" الرصين تحدث في تقرير له قبل أشهر عن ما بين 3 ملايين و4 ملايين مسلم في فرنسا.
بالعودة إلى تريبالات، فهي تنطلق من حقيقة أنّ الأمر محض تقديرات، وتقول إنّ "هذا العدد (الذي يقدمه معهد مونتين) تحت الحقيقة، فإذا انطلقنا من تحقيق تيو سنة 2008 (الذي أجري باستخدام العينة العشوائية على 5000 شخص تراوح أعمارهم ما بين 18 و50 عاماً والذي ارتكز على سؤال الديانة)، فإنّ التقدير يشير إلى نحو 4.2 ملايين مسلم، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الولادات والوفيات والهجرات، فإنّنا وصلنا في تقديري إلى رقم 5 ملايين مسلم عام 2014".
وإذا كان رقم 6 ملايين مسلم هو الرقم الأقرب للواقع، خصوصاً أنّ وزارة الداخلية الفرنسية تستحضره، فإنّ تحديد "المسلم"، كما يعترف الباحث الفرنسي - السوري فاروق مردم بيه، الذي لا يُخفي أنّ اليمين المتطرف وبعض شرائح اليمين التقليدي يضخّمان الأرقام، يطرح كثيراً من اللبس، لأنّه يجري اعتبار كلّ شخص يتحدر من دولة عربية مسلماً، بمن فيهم المسيحي الماروني والقبطي، كما يُدرَج في التحديد كلّ شخص، سواء كان مؤمناً أو متديناً أو غير مبال.
إسلاموفوبيا
ولأنّ الأرقام الرسمية غير متوفرة، ولأنه يمكن تحوير واستغلال كلّ الأرقام الموجودة لأهداف سياسية في وسائل الإعلام، كما يفعل اليمين المتطرف وشرائح في اليمين التقليدي، فقد رأينا تأكيد جورج فينيش، البرلماني عن حزب الجمهوريين، يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2015، أنّ 60 في المائة من السجناء الفرنسيين مسلمون، على الرغم من أنّ الرقم لم يأتِ من مصادر رسمية، كما يصعب إثباته.
لا يخفى أنّ تقدير فينيش مستقى من تقرير لنائب آخر من الحزب نفسه، وهو غيوم لاريفي، الذي نشر في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، ومفاده أنه "في ظل غياب إحصاءات رسمية، لا يمكننا منع أنفسنا من رؤية الواقع أمامنا، وهو أنّ 60 في المائة من السجناء يمكن اعتبارهم من ديانة أو ثقافة إسلامية". وهذه الأرقام موجودة في كتاب نشر قبل أكثر من عشر سنوات، ويحمل عنوان "الإسلام في السجون" لعالم الاجتماع الفرنسي فارهاد خوسروخافار، وهو ثمرة سنتين من التحقيق طاول 160 سجيناً في 4 مؤسسات سجنيّة في باريس وضواحيها وشمال فرنسا، قريبة من أحياء حسّاسة. ومن نتائج التحقيق أنّ ما بين 50 إلى 80 في المائة من السجناء مسلمون.
أما إذا بحثنا عن الأرقام الرسمية، فلا نجد غير ما نشر عام 2013 أنّ 18 ألفاً و300 سجين من بين مجموع 67 ألفاً و700 سجين سجلوا أسماءهم لأداء شعيرة صيام رمضان. لكنّ هذا الإحصاء لا يمكن تأويله أكثر مما يحتمل. فليس كلّ المسلمين سجّلوا أسماءهم، كما أنّ العديد منهم لا يصومون رمضان.
ولا يغيب، هنا، الخطابُ الذي يريد أن يوصله النائب فينيش، وهو أنّ المسلمين ليسوا قابلين للاندماج في المجتمع الفرنسي، وأن السجن (إضافة إلى المسجد) مكانٌ خصبٌ للتطرف. والنتيجة الحتمية لمثل هذا الخطاب هي تصاعد العنصرية وكراهية الأجانب والإسلاموفوبيا.
صوت إسلامي
لا تتوقف مارين لوبين عن الحديث عن "أسلمة فرنسا"، بينما يتحدث آخرون من اليمين الكلاسيكي عن تصويت 93 في المائة من المسلمين الفرنسيين لهولاند في انتخابات 2012، وكأنّ المسلمين كتلةٌ واحدة. لكنّ الباحث الفرنسي محمد عدراوي، من "الجامعة الوطنية بسنغافورة"، لا يوافق على الأمر. يقول لـ"العربي الجديد": "لقد بدأت طائفة من مسلمي فرنسا تعتبر نفسها كذلك، منذ بدأت وسائل الإعلام والسياسيون في الحديث عن هذه المجموعة الإسلامية. يوجد نقاش حول الموضوع، لكن من زاوية علم الاجتماع لا تشكل قوة. فمثلاً، لا يوجد اليوم صوت إسلامي في فرنسا، في حين أنّ كلّ علماء الاجتماع الجدّيين يُجمعون على وجود ناخب مسيحي، أي يوجد شكلٌ من التصويت الكاثوليكي. كلما كان المرء ممارساً للديانة المسيحية كلما صوَّت لصالح اليمين. بينما الأشخاص الذين يمتلكون إرثاً إسلامياً، هل يمكنك أن تعتبرهم مسلمين؟ يوجد نقاش حول الموضوع، فممارستهم الانتخابية لا تتم على ضوء علاقتهم مع انتمائهم الديني، بل وفق وضعيتهم الاجتماعية". يتابع: "مثال آخر، يتعلق بزواج الأشخاص المتحدرين من عائلات إسلامية منذ عقود، فهم يتزوجون من جماعات أخرى، بنسب تفوق الجماعات الأخرى".