بلدان جديدة تنضمّ تباعاً إلى أخرى سبق أن اعتمدت العقوبات المجتمعية خياراً بديلاً في أنظمتها القضائية، الأمر الذي يسجّل خطوات إصلاحية مهمة فيها. الأردن من البلدان التي بدأت أخيراً بتطبيق الخدمة المجتمعية.
في آخر شهر سبتمبر/ أيلول المنصرم، بدأت المحاكم الأردنية بإصدار أحكام بديلة عن السجن، لعلّ أوّلها قرار قضائي عن محكمة شرق عمّان في حقّ شخص ألحق الضرر بممتلكات عامة، يقضي بانخراط المدان في أعمال تخدم المجتمع. يأتي ذلك بإشراف من قبل مديرية العقوبات المجتمعية التابعة لوزارة العدل الأردنية. ومفهوم العقوبات المجتمعية البديلة عن السجن ينصّ على عمل غير مدفوع الأجر لخدمة المجتمع، وذلك لمدّة تحددها المحكمة لا تقلّ عن 40 ساعة ولا تزيد على 200، وينفّذ العمل في خلال مدّة لا تزيد على عام واحد تحت الرقابة، بحسب المادة 25 مكررة من قانون العقوبات المعدّل رقم 27 لعام 2017. ويلجأ القاضي إلى تلك العقوبات في قضايا معيّنة ووفق ضوابط محددة، لكي تكون ذات أثر وتحقّق المقصد منها.
يقول وزير العدل الأردني السابق عوض أبو جراد المشاقبة الذي بدأ تطبيق العقوبات البديلة في خلال عهده، لـ"العربي الجديد"، إنّ "ثمّة مخاطر كثيرة للعقوبات السالبة للحرية على الأفراد، منها الوصمة الاجتماعية التي تلاحق المحكومين. كذلك ثمّة مخاطر نفسية على هؤلاء الأشخاص بسبب نبذهم من قبل المجتمع، الأمر الذي يتسبب في انعزالهم عن محيطهم". يضيف أنّ "العقوبة السالبة للحرية تولّد لدى هؤلاء الأشخاص رغبة في الانتقام، وقد تكون العقوبة السالبة للحرية كذلك عقوبة اقتصادية لأسرة لا ذنب لها إذا كان المتهم معيلاً لها". ويتابع أبو جراد أنّه "من هنا، كان لا بد من اقتراح عقوبات بديلة عن الحبس، وتمكين القضاة تشريعياً من ذلك، لتخفيف غلواء عقوبة السجن ببدائل الإصلاح المجتمعية، والاستعاضة عنها بعمل مجتمعي غير مدفوع الأجر للصالح العام، إلى جانب الخضوع إلى برامج تأهيل من قبيل برامج علاج إدمان المخدرات أو برامج السيطرة على الغضب".
ليسو مشمولين بالعقوبات البديلة (خليل مزرعاوي/ فرانس برس) |
ويوضح أبو جراد الذي يخلفه اليوم على رأس وزارة العدل الدكتور بسام التلهوني، أنّه "وفق المادة 54 مكرر من قانون العقوبات، يجوز للمحكمة عند الحكم في جناية أو جنحة بالسجن أو الحبس مدّة لا تزيد على سنة واحدة أن تأمر في قرار الحكم بإيقاف تنفيذ العقوبة وفقاً للأحكام والشروط المنصوص عليها في هذا القانون، إذا رأت من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو سنّه أو الظروف التي ارتكب فيها الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنّه لن يعود إلى مخالفة القانون". ويشير إلى أنّ "ثمّة من يخالف القانون بسبب ثورة غضب وثمّة من يرتكب جريمة بسبب اضطراب في السلوك، وأمثال هؤلاء يمكن تأهيلهم وإخضاعهم إلى دورات للسيطرة على الغضب في ما يُعرف بعلم الاجتماع العلاجي"، مؤكداً "وجود طرق للسيطرة على الغضب".
من جهة أخرى، يقول المشاقبة إنّه "يحقّ للمحكمة بناءً على تقرير الحالة الاجتماعية، إلغاء العقوبة المجتمعية المحكوم بها، وتنفيذ العقوبة الأصلية إذا قصر المحكوم عليه في تنفيذ بدائل الإصلاح المجتمعية من دون عذر تقبله المحكمة". ويشدّد على أنّ "أهداف مديرية العقوبات المجتمعية هي المحافظة على حقوق الإنسان وإعادة تأهيل مرتكب الجريمة تمهيداً لدمجه في المجتمع، وتحقيق الإصلاح المجتمعي، والمساهمة في تخفيف احتمالات العودة إلى ارتكاب الجرائم، وتجنّب الآثار السلبية للعقوبة السالبة للحرية، وعودة المدان مواطناً منتجاً في المجتمع". ويشرح أنّ "من لديه مهنة يُوَجَّه إلى واحدة من المؤسسات والجهات التي يتمّ التعاون معها لتنفيذ العقوبات. على سبيل المثال، من الممكن أن يكون ذلك الشخص طبيباً، بالتالي يمكن توجيهه صوب إجراء فحوصات طبية لتلاميذ المدارس. وفي حال كان الشخص المعني متهوراً في القيادة، فمن الممكن إخضاعه إلى برامج خاصة بسلوكيات الطريق". يُذكر أنّ جهات تحدّثت عن دافع اقتصادي لمثل تلك العقوبات، فيعلّق المشاقبة أنّ "العامل الاقتصادي عامل مهمّ لكنّه ليس الأهم. الأثر الاجتماعي هو الدافع الأهم لهذا القرار".
وفق التعليمات، يتابع ضابط الارتباط في المحاكم القرارات القضائية، وبعد ذلك عملية تنفيذ العقوبات المجتمعية البديلة لدى المؤسسات والجهات المعتمدة، مع رفع تقارير الحالة الاجتماعية وتزويد المحكمة بها بناءً على طلبها، ورفع التقارير الدورية بخصوص التنفيذ إلى قاضي تنفيذ العقوبة. ويركّز مضمون العقوبات البديلة على الأعمال ذات النفع العام أو الأعمال التي تدخل في نطاق الأعمال الاجتماعية أو التطوعية، كالمشاركة في أنشطة تعليمية أو تنموية وأداء بعض الأعمال التطوعية أو الاجتماعية في مؤسسات الرعاية الاجتماعية أو المؤسسات التي تضرّرت من جرّاء الجريمة.
في السياق، يقول أستاذ علم الاجتماع والجريمة في جامعة الحسين بن طلال، الدكتور حسين محادين، لـ"العربي الجديد"، إنّه "من حيث المبدأ فإنّ الضبط الاجتماعي لسلوك الأفراد يتوزّع على بعدَين، البعد الأوّل هو الضبط الداخلي والمرتبط بالضمير والتربية والدين والمعتقد، والبعد الثاني هو الضبط الخارجي المتعلق بالقوانين والعادات والتقاليد والمشتركات الاجتماعية". ويشرح أنّ "الشخص الذي ينحرف عن السلوك المنضبط في القانون ويصدر بحقه حكم نتيجة تجاوزه القانون، قد يكون خطؤه عرضياً وليس لديه نزوع نحو الانحراف. وفي حال زُجّ في مراكز الإصلاح قد يكتسب أنماطاً سلوكية جديدة من مجرمين آخرين، وهنا نفقد نواة طيّبة لشخص لا ينزع إلى السلوك الإجرامي". يضيف محادين أنّ "العقوبات البديلة تحصّن مثل هؤلاء الأشخاص وتعيدهم إلى السلوك القويم، وتجنّبهم مشكلة عدم التأقلم بعد الإفراج عنهم من مراكز الإصلاح مع التغيّرات التي جرت في غيابهم والتي يصعب تجاوزها بعد تنفيذ الحكم بالسجن".
ويوضح محادين أنّ "العقوبات البديلة تجنّب الأشخاص الوصمة الاجتماعية التي تلاحق المحكومين بالسجن في مراكز الإصلاح، وهي تجعل الشخص أكثر قبولاً في المجتمع. بالتالي، فإنّ التوجّه إلى تلك العقوبات هو توجّه إيجابي". ويقول إنّ "من سلبيات عقوبة الحبس التفكك الأسري الذي يحدث أحياناً بسبب غياب المحكوم عن أسرته، كما تتسبب مثل هذه الأحكام بمشكلات اقتصادية لعائلة المحكوم وأحياناً مشكلات وجرائم بدافع جنسي". يضيف أنّه "لا بدّ من أخذ مهلة زمنية للحكم على تطبيق هذا النوع من العقوبات بصورة تُظهر لنا نقاط القوة والضعف التي سوف تصاحب هذه العقوبات الشاغلة جزئياً لحرية الفرد المخالف أو المحكوم عليه".
من جهتها، تقول المحامية والناشطة الحقوقية هالة عاهد لـ"العربي الجديد" إنّ "مثل هذه العقوبات خطوة مهمة في اتجاه الإصلاح الجنائي، وهي مرجوّة أكبر لإصلاح الجاني وتغيير سلوكه بصورة إيجابية". تضيف أنّ "العقوبات في الأساس تهدف إلى حماية المجتمع وتحقيق مصالحة، والحبس لا يوصل حقّ المجتمع بطريقة مباشرة، لكن عند تقديم الخدمات الاجتماعية فإنّ هذه العقوبة توصل حق المجتمع مباشرة، خصوصاً في المخالفات التي لا تُعَدّ من الجرائم الكبرى". وتتابع عاهد: "نحن في حاجة إلى الرقابة الدائمة على مثل هذه العقوبات، للتأكد من تطبيقها بالطريقة التي من شأنها أن تعزّز السلوك الإيجابي". وتشير إلى أنّ "هذه العقوبات لا تملك جوانب اجتماعية إيجابية فقط، بل كذلك جوانب اقتصادية إيجابية على أسرة المحكوم عليه وكذلك على الدولة التي تتحدّث عن كلفة شهرية عالية للمحبوسين في مراكز الإصلاح".
وكانت وزارة العدل الأردنية قد وقّعت مذكّرات تفاهم مع وزارات التنمية الاجتماعية، والأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، والزراعة، والشؤون البلدية، والتربية والتعليم، والشباب، وكذلك مع أمانة عمّان الكبرى، بهدف تحديد مجالات التعاون والتنسيق بين الوزارات والجهات الحكومية المشاركة في مجال توفير الأماكن والمجالات المناسبة لتطبيق العقوبات البديلة ومتابعة الرقابة والإشراف على حسن تنفيذها من قبل المحكوم عليه وتوفير المعاملة الحسنة له.
تجدر الإشارة إلى أنّ تكلفة إيواء نزيل واحد في مراكز الإصلاح تبلغ ثمانية آلاف و285 ديناراً أردنياً (نحو 11 ألفاً و700 دولار أميركي) سنوياً، في حين يصل عدد نزلاء مراكز الإصلاح إلى نحو 14 ألفاً و200 نزيل موزّعين على 17 مركز إصلاح وتأهيل، اثنان منها مخصّصان للنساء. ومن المنتظر، بحسب ما أُعلن رسمياً، أن يساهم البدء بتطبيق العقوبات البديلة في خفض عدد نزلاء مراكز الإصلاح بنسبة كبيرة، بالإضافة إلى خفض إنفاق الحكومة على السجون من 90 مليون دينار (نحو 127 مليون دولار) إلى 69 مليون دينار (نحو 97 مليون دولار).
وكان النظام القضائي البريطاني قد ابتكر في مطلع ستينيات القرن الماضي نموذجاً جديداً للعقوبات صُنّف تربوياً وإنسانياً وأُطلق عليه "الخدمة المجتمعية"، وفيه يقدّم الشخص المدان في جنح بسيطة خدمة مباشرة لمجتمعه المحلي تساعده على تهذيب ذاته وتدرّبه على احترام من حوله، وقد انتقلت تلك "الخدمة المجتمعية" من قضاء بريطانيا إلى أنظمة قضائية عدّة حول العالم.