مشكلة الحدود بين المغرب ومدينة سبتة المحتلة التي تخضع للسيادة الإسبانية لا تجد طريقها إلى الحلّ السياسي بين البلدين. هناك ينشط آلاف المغاربة في تهريب البضائع إلى المغرب مع ما في ذلك من خطر يومي عليهم. لكنّ النساء اللواتي يعملن في التهريب بالذات يتعرضن إلى تمييز أكبر من حراس الحدود من الجهتين ومن المهربين الآخرين.
من هؤلاء فاطمة م. التي تتحدث إلى "العربي الجديد" ولا تتوقف عيناها عن ذرف الدموع. تقول إنّها دموع واقعها المرّ الذي لم يتغير منذ ستة عشر عاماً. هي تعمل في المنطقة الحدودية، عند معبر سبتة بالذات الذي يدخل منه المغاربة إلى مدينة سبتة، بينما يعودون إلى بلدهم من خلال معبر تارخال.
تهرّب فاطمة الملابس. تخلّى عنها زوجها، وترك لها ثلاثة أبناء هي معيلتهم الوحيدة. يتابع أبناؤها تعليمهم وقد بلغوا اليوم سنّ المراهقة. تقول: "قلبي طايب (طفح به الهمّ). لا أخاف قول الأمور كما هي، لم تكن الأمور كذلك في الماضي، والمسؤولون ليس لديهم علم بما يجري لنا. أوضاعنا نحن النساء سيئة، المرأة ليست لها أيّ قيمة هنا. لا يوجد تنظيم بيننا كمغاربة على المعبر، ويكثر العنف بيننا. كلّ واحد يجري من أجل نفسه. نحن نحارب من أجل الخبز. كلّنا معذبون".
تأمل فاطمة في أن تبادر الحكومة المغربية إلى تبديل أوضاعهم: "يمكنهم أن يدعمونا مالياً، خصوصاً أنّ عملنا ينهار مع تحوّل تهريب السلع من استخدام الأيدي والظهر إلى استخدام السيارات. هذا الأمر أثر سلباً على حجم السلع التي تدخل وثمنها، فقد تدنت أسعار السلع التي يحملها الأفراد على ظهورهم آتين بها من مخازن البضائع في المنطقة الحرة في سبتة".
باتت فاطمة ثلاث ليال في العراء بالقرب من مراكز الشرطة حتى تتمكن من إخراج بضاعتها. لكنّ هذه البضائع لا تبلغ قيمتها أكثر من سبعين يورو، كما تقول. تشير إلى أنّها لا تعمل هي والنساء الأخريات في أيام الإجازة الأسبوعية، كما أنّ السلع التي يطلبنها من سبتة ليست متوفرة بشكل دائم.
تواطأت الظروف الصعبة على معظم النساء العاملات على معبر سبتة اللواتي يعرفن باسم الحمّالات. معظمهن يعاني من مشاكل الطلاق وإعالة الأطفال والتهميش، بالإضافة إلى ظروف صعبة دفعت بهنّ إلى هذه البؤرة التي تغيب فيها الحقوق.
تنفي فاطمة التي تعيش في تطوان، شمال المغرب، تعرض النساء الحمّالات للعنف أو الضرب من الشرطة المغربية أو الإسبانية. كما تنفي حصول الشرطة على رشى مقابل تسهيل الدخول أو الخروج بالاتجاهين. تقول: "نحن- المهربين- غير منظمين. وقد زاد عددنا في السنوات الأخيرة، خصوصاً النساء". لكنّها لا تنفي أنّ النساء يواجهن التمييز في عملية الدخول والخروج والحصول على الرزق.
في المقابل، تشكو عائشة ع. تركها أطفالها مع زوجها المريض وخروجها إلى العمل من أجل تأمين لقمة العيش وإيجار البيت وفواتير الماء والكهرباء. تعمل على المعبر منذ عامين: "لا أحد يعرفنا إلاّ الله. الواسطة تنتشر هنا، بالإضافة إلى التحرش بنا في بعض الأحيان، والتمييز الذي نتعرض له". تفسر: "إذا مرت فتاة جميلة يسمح لها الحرس بالمرور سريعاً، أما نحن فننتظر ساعات وأياماً". لا يتجاوز ما تحصل عليه عائشة مائتي يورو في الشهر، وتواجه كغيرها خطر اعتداءات عصابة التهريب التي تزاحمهم على رزقهم والمعروفة باسم "البراكدية".
الظروف لا تختلف عند عائشة ف. تعمل على المعبر منذ 15 عاماً. تهرّب الملابس لصالح أحد المهرّبين وليس لحسابها الشخصي. تعيش في قرية بريكون في مدينة الفنيدق، شمال المغرب، وتأتي يومياً إلى المعبر. تنتظم عائشة في الصف وتعمل بحسب النوبة، فإما أن تتمكن من دخول المعبر بحسب دوام عمله، أو تعود أدراجها. تقول: "آلام الظهر تقتلني. لا يوجد لنا عمل غير هذا. ويجب علينا كنساء أن نكون قويات". تضيف: "السلطات الإسبانية تعاملنا دائماً بعنف".
الدموع تسبق كلمات نساء معبر سبتة. هنا لا حقوق لهن، ولا مؤسسات رسمية أو منظمات إنسانية تهتم بهن. هذا الوضع هو الذي دفع صحيفة "ذا غارديان" البريطانية إلى إطلاق اسم "النساء البغال" على حمّالات المعبر، مع ما يعانينه يومياً في عملهن.
يقول مدير مرصد الشمال لحقوق الإنسان، محمد بنعيسى، لـ "العربي الجديد"، إنّ "شمال المغرب، خصوصاً مناطق تطوان والفنيدق ومارتيل خضعت لبرامج التنمية الحكومية ابتداء من عام 2005 من خلال إنشاء جهة رسمية تشرف على إدارتها وتنميتها سياحياً وخدماتياً في إطار المبادرة الوطنية". يستدرك: "لكنّ السياحة بقيت موسمية، ولم تنعكس إيجاباً على أهالي المنطقة. كما أنشئ ميناء طنجة المتوسط، لكنّ المواطنين لا يملكون المؤهلات الكافية للعمل فيه، ويعاني أغلبهم من الأمية، فشكل الميناء فرصة لكن للآتين من مناطق أخرى بحثاً عن عمل". يتابع: "هذه الموارد غير المستغلة دفعت الأهالي إلى العمل في المعبر، واضعين قوة عملهم في أيدي أباطرة التهريب. اليوم نشهد على تشكل طبقات مهربين من الأكبر إلى الأصغر".
يشير بنعيسى إلى افتقاد المنطقة المرافق الحيوية، كالمناطق الصناعية، والمنشآت: "لذلك يتجه معظم السكان إلى معبر سبتة. كما تنزح بعض الأسر من الأرياف إلى منطقة الشمال بحثاً عن رزقها". يتابع إنّ معظم المهربين يعملون في تهريب الملابس، والدخان، والكحول، والهواتف المحمولة. كما يهرّبون "المواد الغذائية التي يوشك تاريخ صلاحيتها على الانتهاء، لكن يجري تزوير هذا التاريخ لدى إدخالها إلى المغرب". يقول إنّ هذا الأمر يبرر زيادة حالات الإصابة بمرض السرطان في المنطقة.
يصف بنعيسى مشهد التهريب كالآتي: "منذ ليلة الأحد - الإثنين، تبدأ السيارات التي تقلّ المهربين بالوقوف صفاً طويلاً يمتد إلى مدينة الفنيدق. أما النساء فيبتن في العراء ليتسنى لهن مع السادسة صباحاً، موعد فتح المعبر، الدخول إلى سبتة من المدخل العادي، ثم العودة من معبر تارخال".
يومياً، يدخل إلى سبتة المحتلة ما بين 20 ألفاً إلى 30 ألف مهرب ومهربة. في ظل هذا الزخم، يعيش المهربون حالات من التدافع القاسية إحداها أدت إلى إجهاض امرأة أخيراً. يقول بنعيسى: "يشهد المعبر حالات تدافع يومية، وتتأذى النساء بالدرجة الأولى. وتسقط إصابات وحالات إجهاض، بل توفيت امرأة قبل عامين".
يحمّل بنعيسى الحكومة المغربية مسؤولية الوضع المأساوي على المعبر: "كيف تسمح الدولة التي تنادي بحقوق الإنسان أن يتعرض مواطنوها إلى التعسف والظلم والاعتداء من طرف السلطات المغربية والإسبانية، مع ما في ذلك من شتم وتحرش قد يصل إلى الاغتصاب؟ شعارات المساواة وحقوق المرأة تسقط عند هذه البوابة المطلة على أوروبا في ظل غياب اتفاقيات رسمية بين البلدين تنهي احتلال سبتة".
وعن غياب ضغط المجتمع المدني، يوضح: "قضية المعبر شائكة، يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي والاقتصادي. فهو مكان لتهريب البشر والسلع والمخدرات. بالتالي، رؤية المجتمع المدني ضعيفة. يجب أن يحصل على معطيات حتى يشكل ضغطاً على الحكومة من أجل إيجاد حل بديل".
من جهته، يقول المستشار في بلدية الفنيدق محمد يونس إنّ "المستفيد الأكبر من تهريب السلع هم المهربون الكبار، ثم رجال الجمارك، ويتبعهم الأمن. أما في ما يتعلق بالمهربين الصغار فلا ينالون أكثر من قوتهم اليومي".
يقدّر يونس المبالغ التي تدخل إلى سبتة يومياً بمئات آلاف الدولارات التي تستفيد منها الحكومة الإسبانية نتيجة الطابع التجاري الذي يميز سبتة المحتلة.
أما عن دور الجهة الرسمية التنموية في إقليم الفنيدق والمعروفة باسم العمالة، فيقول: "لم تقم بأيّ خطة لإنقاذ ممتهني التهريب. إذا عدنا إلى ما قبل الاستقلال، كانت الفنيدق تضم ستة معامل، وكان عدد سكانها قليلاً. بحسب الإحصاء الأخير وصلنا إلى 37 ألف نسمة، ولا يوجد في المدينة مصدر عيش واحد غير السوق المركزية وسوق المسيرة الخضراء، ومعبر سبتة الذي يقتات منه الفقير والمهمش، خصوصاً النساء". يخلص: "الحكومة المغربية لم تجد حلاً بديلاً لهم، بل لا يبدو مثل هذا الحلّ قريباً".