الطريق نحو المواطنة السليمة

19 فبراير 2017
"نعم للمواطنة" (أحمد الربيعي/ فرانس برس)
+ الخط -
يُحكى كثيراً عن الوطن، ويُحكى كثيراً عن المواطنة السليمة المقترنة بذلك الوطن.. تلك المواطنة التي توجِد مواطنين صالحين يعتنقون الوطن ويحرصون على مصالحه وخيره

يقول الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو إن للأخلاق الحميدة قدرة على إنتاج مواطنين صالحين أكثر من قدرة هيبة القانون على ذلك، بمعنى أن التربية السليمة تكفي بحد ذاتها لتحقيق المواطنة الحقة. لا يخفى على أحد أن هذا الطرح الطوباوي لا يتماشى مع التراجع الدراماتيكي في القيم المجتمعية الناتج عن تقوقع الأمم على نفسها، ما سمح لبعض حركات اليمين المتطرف باحتكار مفهوم المواطنة ودمجه تلقائياً بالهوية الوطنية.

ينطلق التعريف السليم للمواطنة من اعتبارها تصرفاً سلوكياً قبل توصيفها كانتماء لمجموعة أو لأمة أو لشعب، فهي تفترض بداية إرادة الفرد في المشاركة الاجتماعية ممارساً لحريته الفردية ضمن توجه إنساني مناسب لمصلحة المجتمع الذي يعيش فيه، فيساهم في النقاش، وفي تبادل الآراء وفي ممارسة حقوقه السياسية والمدنية كحق الانتخاب والترشح وحق العمل النقابي والانتساب للأحزاب والجمعيات، مستفيداً من حيازته لجنسية بلد ما أو لحقوق سياسية استثنائية في بلاد متقدمة سياسياً.

إن التوصيف القانوني للمواطنة يخرجها من مفهومها السلوكي البحت ليدخلها في هيكلية مبنية على الحقوق والموجبات تتواجد تلقائياً بين الفرد والمجتمع فتصبح حينذاك تنفيذاً للعقد الاجتماعي بحيث يعترف المجتمع، ممثلاً بالسلطة، للمواطن بحقوق نابعة من كونه إنساناً كالحق في العيش الآمن، والحق في العمل، والحق في حرية الفكر والرأي والتعبير، والحق في التنقل والانتقال، مقابل موجبات يلتزم بها كأي فرد آخر كواجب احترام القوانين وواجب دفع الضريبة وغيرها.

بالإضافة إلى هذا الطابع العقدي الإلزامي، تتخذ المواطنة من الناحية الأدبية والأخلاقية شكل قيم مشتركة أولها التمدن الذي يعني احترام المواطنين الآخرين في نفوسهم وأموالهم، واحترام الأموال العامة المشتركة بين الجميع، ما يسمح لكل مواطن أن يستفيد بالتساوي مع الآخرين من الخدمات العامة. أوسط هذه القيم هي المشاركة الإيجابية في تحقيق المنفعة العامة وتقديمها على المصلحة الخاصة عند وجود تضارب بينهما، وآخرها هي قيمة التضامن الاجتماعي بحيث يخرج المواطن من حيثيته الفردية إلى كونه عنصراً فاعلاً في المشروع المجتمعي العام فيقوم بمساعدة الطبقات الاجتماعية الأخرى عبر تمويل لتأمين صحي عام للجميع دون استثناء.

إن إنتاج المواطن الصالح يتطلب آلية ثقافية وتربوية تبدأ منذ الصغر في حضن العائلة حيث يتم تعليم الفرد أهمية الارتباط الأسري والتضامن الأخوي التي ستنعكس تلقائياً في تصرفاته تجاه أقرانه في المجتمع لاحقاً، ثم يأتي دور المدرسة بحيث لا يكفي تعليم الناشئة على الانتماء للوطن أو للقيم بل لا بد من تزويدها بمنهجية تقوم على تقديم الأفكار البناءة كالتركيز على واجب المشاركة المادية والذهنية وموجب الإبداع والسمو الفكري في العمل المدني والاجتماعي والسياسي.


إن احترام التنوع لا يجب أن يؤدي إلى نفي الانتماء لمجموعة أو لأمة بل لا بد من المفاضلة في درجات الانتماء، فكلنا بداية مواطنون في هذا العالم يجمعنا انتماؤنا البشري الذي يجب أن يتمايز ويتقدم على انتمائنا إلى قومية أو إلى جنسية ما والذي بدوره يتقدم على انتمائنا إلى فئة فكرية او عقائدية معينة.

لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم المواطنة يبقى مفهوماً نظرياً إذا لم يقترن بتطبيق مفاهيم أخرى ترتبط به ارتباطاً وثيقاً ولا سيما المساواة، فضمان المساواة الفعلية وإزالة العوائق العنصرية يعطيان للأفراد الأهلية والشجاعة لممارسة قيم المجتمع بحرية ويسمح لهم بالاطلاع على ثقافات الآخرين والتواصل معها بالتالي القياس عليها وتطويرها.

واقعياً، فإن تطبيق مفهوم المواطنة يبين وجود تفاوت كبير بين المجتمعات. ففي حين أن المجتمعات المتقدمة تسعى اليوم إلى تفعيل مشاركة المواطن في اتخاذ القرارات ولا سيما عبر ما يسمى بالديمقراطية التشاركية كاللجوء الى الاستفتاءات وإلى اعتماد حق المواطن في إعطاء رأيه في مشاريع القوانين عبر ما يسمى بالعريضة التفاعلية، فإننا نصطدم بحالة من التقوقع الثقافي والفكري في مجتمعات العالم الثالث، الأمر الذي قد يوجب إعادة النظر في الفلسفات الفكرية والسياسية التي تقوم عليها هذه الأخيرة.

من ناحية أخرى، إن التطور التاريخي لمفهوم المواطنة ابتداء من اليونان القديمة وصولاً الى أيام العولمة الحاضرة، يوجب على وسائل الإعلام والصحافة والتواصل الاجتماعي ألا تكتفي بالمشاركة في نقل الخبر أو الواقعة بل أن تساهم في بناء المواطن الصالح وفقاً لمعايير مهنية تتبناها النقابات والجمعيات بالتعاون من السلطات العامة في الدولة، أهمها تخصيص مقالات وبرامج مرئية ومسموعة تنشر الوعي بين أفراد المجتمع لجهة الحقوق والموجبات الأساسية العائدة لكل فرد.

خلاصة القول فإن المواطنة السليمة تؤدي الى تنظيم المجتمع بحيث يكون أفراده متساوين قانونياً وسياسياً مهما اختلفت أصولهم ومواصفاتهم، فالمواطنة السليمة هي التعبير الأسمى عن الكرامة الإنسانية.

*دكتور في القانون ومحامٍ بالاستئناف في باريس