أزمة المقهور والقاهر

25 يناير 2019
أحد المقهورين (كريستيان إيندر/ Getty)
+ الخط -


مواقف عشناها واعتدنا رؤيتها عن سعي المقهور للتغلب على قاهره. نقف في صفه ونهتف معه وله، وحين ينال فرصته في إزاحة القاهر، نراه يتلبس الدور الذي اجتهد للتغلب عليه، ويتحول بذاته إلى قاهر يعيد إنتاج واقع كان يرفضه، أو تراءى له ذلك.

فهل الإنسان تواق للسلطة بدافع فطري أم نتيجة ثقافة وتربية تشبّع في رؤية نماذجها؟ تلك السلطة التي تربى تحت ظلها في البيت، وخضع لها في المدرسة، وواجهها مع مؤسسات مجتمعه التي تتمادى إلى حد تهميش الناس وتدجينهم ليصبحوا غير قادرين على الاعتراض والرفض.

ولكن هل داخل كل مقهور منّا قاهر صغير يقبع منتظراً لحظة انقلاب الأدوار؟

الطفل الذي اعترض يوماً على سلطة أبويه نجده يكبر ويمارس الدور ذاته مع أطفاله، ويعتبر نفسه مالك الخبرة في التربية كونه الأكبر سناً، والأعلم بأمور الحياة والأصول وحسن السلوك، وكأن أساليب التربية التي ترسخت في مخيلته لا يمكن تبديلها، فيجترها ويكررها دون تفكير.

ومدرسون جدد يتمسكون بأسلوب قهر الطلاب للحفاظ على "هيبة" الأستاذ ومكانته، معتبرين أنفسهم أصحاب "المعرفة" بكل جوانبها، وأن وظيفتهم تعليم "الجاهلين" الذين لا تستوي أوضاعهم إلا بالصرامة، ويبرعون في تذكير طلبتهم بفارق "المستوى" بين المعلم والتلميذ في كل لحظة.

وتتجلى علاقة القاهر بالمقهور في العلاقات الزوجية أيضاً، وأساليب القهر كثيرة في هذا المجال ويمارسها الطرفان، مع تشبث كل منهما بموقفه على أنه نتيجة قناعات "صحيحة" و"مثبتة" بالتجربة.



وتتربع علاقة المواطن بالسلطة على رأس ثنائية القاهر والمقهور لشدة وضوحها وعموميتها. والقاهر هنا يستغل كل أشكال ممارسة السلطة كونه "الأقوى". وفي المقابل نرى المقهور كيف يدعم أحد أشباهه، ويسير خلفه، حين يعده الأخير بأنه سيزيح القاهر عن كرسيه ويحقق العدالة والمساواة، ويتربع مكانه باسم المقهورين ونصرة لهم. لكن من نتائج تداول السلطة أن الجالس الجديد على مقعد القاهر يتمسك رويداً رويداً بنهج سلفه، وتبقى العدالة قيمة تزين الخطابات بحسب مقتضيات الظروف.

لكن انطلاقاً من حتمية التغيير التي لا يتربى عليها أغلب البشر، لا بد من النظر جيداً إلى ذواتنا ودواخلنا. فكل واحد منا هو قاهر ومقهور في آن معاً وبحدود معينة، ونلمس ذلك في أبسط علاقاتنا الإنسانية.

ووفق المربي البرازيلي صاحب كتاب "تعليم المقهورين" باولو فرييري، بتصرف، إننا نفشل حين نحارب القاهر بدل القهر، في حين أن تطبيق العدالة في أي سلوك مهما بدا بسيطاً، يلغي القهر ويحقق المساواة ولا يلبث أن يضعف دور القاهر حتى يلغيه.
دلالات
المساهمون