كذبة كبرى... مأساة المهاجرين لعبة المافيات والسياسيين (4/7)

08 مارس 2018
ما الذي ينتظره هنا؟ (أليساندرا بينيديتي/Getty)
+ الخط -

على خطى المهاجرين التونسيّين، وصل "العربي الجديد" إلى السواحل الإيطالية على البحر الأبيض المتوسط، ورصد ما يجري في الكواليس وكيف يتلاعب كثيرون بمصائر هؤلاء الحالمين بمستقبل أفضل.  إليكم الحلقة الرابعة من ملف "السجن الأبيض المتوسط".


تكشف الأرقام المتعلقة بالهجرة إلى إيطاليا أنّ هذا الملف يخفي كذبة كبرى وتلاعباً بالصور والرسائل التي يُروَّج لها إعلامياً، إذ إنّها مخالفة للواقع بحسب اعترافات ومعطيات إيطالية. وتبدو أوروبا عموماً، وإيطاليا خصوصاً، كأنّها تعاني من أزمة كبيرة عنوانها الهجرة وقد فوجئت في السنوات الأخيرة - ما بعد الثورات العربية - بأعداد الوافدين إليها.

وإيطاليا، بحسب الناشطة التونسية نادين عبدية، وهي مسؤولة المهاجرين في نقابة "شيزل" (الاتحاد العام للعمل) التي تُعَدّ من أكبر نقابات إيطاليا وممثّلتهم المنتخبة في بلدية باليرمو، "تتعامل مع قضية المهاجرين بوصفها حالة طوارئ. لكنّ حالة الطوارئ هذه تتواصل منذ أربعين عاماً!". وتؤكّد عبدية لـ"العربي الجديد" أنّ "هذه القضية هي من صلب الحياة اليومية، لكنّ إيطاليا تستغل وضع الطوارئ هذا لتحصل على تمويل من الاتحاد الأوروبي. وبالفعل، حصلت لامبيدوزا وصقلية (سيشيليا) وأغريغنتو على تمويل أوروبي خاص.

تضيف عبدية أنّ "التونسيين تحديداً، بدأوا موجات هجرتهم منذ تسعينيات القرن الماضي، وأنّ نحو ستة آلاف أو سبعة يصلون سنوياً إلى إيطاليا منذ ذلك الوقت، وليس صحيحاً أنّ الهجرة بدأت بعد عام 2011. لكنّ وصول نحو 26 ألفاً في ذلك العام أحدث ضجّة كبيرة، لأنّ المهاجرين توجّهوا كلهم إلى مكان صغير هو لامبيدوزا. أمّا اليوم فالمعدلات طبيعية جداً".

وتوضح عبدية أنّ "الملف صار ملفاً سياسياً إيطالياً بامتياز، بين اليمين واليسار. إذا سألت إيطالياً عن عدد المهاجرين في إيطاليا، فإنّه سوف يؤكد لك أنّه قد يصل إلى 20 مليوناً أو 30 مليوناً وأنّ عددهم قد يفوق عدد الإيطاليين في الوقت الحاضر، وسوف يضيف أنّ ثمّة غزواً ممنهجاً لإيطاليا. وذلك في حين أنّ الأرقام الرسمية تشير إلى أنّ المهاجرين يمثّلون 8.3 في المائة من السكان فقط". يُذكر أنّه في العام الماضي، غادر إيطاليا 165 ألف مهاجر إيطالي بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، بينما دخلها فقط 140 ألف أجنبي، لكنّ الصحافة الإيطالية لا ترغب في الإضاءة على هذه الأرقام.

وتؤكد عبدية أنّ "الأحزاب الإيطالية كلها تتلاعب بالمهاجرين، حتى الحزب الديمقراطي (يسار وسط) الذي يدافع عنهم. فهو قدّم وعوداً إلى نحو خمسة ملايين مهاجر شرعي بإعادة النظر في قانون الهجرة، خصوصاً ما يتعلق بالجيل الثاني منهم، لكنّه لم يفِ بأيّ منها في حين تتخذ الأحزاب الأخرى اليمينية واليمينية المتطرفة من ملف الهجرة قاعدة لحملاتها الانتخابية. فتلك الأحزاب ترى في المسلمين غزاة وإرهابيين جاؤوا لتغيير حياة الإيطاليين ومحو ثقافتهم ودينهم". تجدر الإشارة إلى أنّ زعيم حزب "ليغا نورد" (رابطة الشمال) ماتيو سالفيني على سبيل المثال، يدعو إلى طرد المهاجرين والمسلمين، فيأتي ذلك في إطار خطاب يلقى رواجاً متصاعداً في البلاد، حتى في جنوبها. وكان استطلاعات رأي في صقلية أعدّت قبل الانتخابات النيابية التي أجريت في الرابع من مارس/ آذار الجاري، إلى أنّ "موفيمنتو تشينكو ستيليه" (حركة النجوم الخمس) وهو تنظيم معاد للمهاجرين، سوف يحظى بأكثر من 40 في المائة من الأصوات، إلى جانب تصاعد لحزب "ليغا نورد" و"فورتسا إيطاليا" (إلى الأمام إيطاليا). أمّا اليسار، بحسب استطلاعات الرأي تلك، فيسجّل تراجعاً كبيراً إذ فقد حضوره التقليدي في الجنوب الإيطالي خلال الانتخابات البلدية الماضية وربما يحدث الأمر ذاته في الانتخابات المقبلة.

في إنتظار ما سوف يكون (ألبيرتو بيتسولي/ فرانس برس)

وتذهب استنتاجات الناشطين في مجال الهجرة إلى التأكيد أنّ الجانب الإيطالي يتاجر بهذا الملف أوروبياً ودولياً، في حين تنخرط الصحافة الإيطالية في تصوير "نماذج من المنحرفين" كأنّهم كلّ المهاجرين، ويضغط الجميع على الاتحاد الأوروبي لضخّ مزيد من الاعتمادات. ويذكر ناشطون لـ"العربي الجديد" أنّ إيطاليا، خصوصاً في عهد رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني، تغاضت أحياناً عن مرور مهاجرين عبر أراضيها في اتجاه دول أخرى بهدف الضغط عليها وتذكيرها بأنّها قد تكون نقطة عبور فقط لآلاف من المهاجرين. وهو ما يدفع إلى الإسراع في تحويل الاعتمادات.

النعمة نقمة؟

تشير الأرقام الإيطالية الرسمية إلى أنّ المهاجرين ساهموا في الدخل السنوي الخام بقيمة 124.9 مليار يورو في عام 2015. وفي السياق، يؤكد رئيس صندوق الضمان الاجتماعي الإيطالي، تيتو بويري، إنّ المهاجرين يساهمون بما قيمته 5.3 مليارات يورو في التغطية الاجتماعية، وأنّ جزءاً كبيراً من المتقاعدين الإيطاليين يتقاضون معاشاتهم بفضل المهاجرين.


ويوضح بويري في تصريحات صحافية، أنّ ضريبة الدخل للأشخاص الأجانب تقدّر بنحو 6.8 مليارات يورو، و"إذا أوقفنا توافد الأجانب فسوف يعرف نظام التقاعد صعوبات كبيرة وسوف يكون الأمر مرهقاً لميزانية الدولة". ويقول بواري إنّ مساهمة الأجانب في نظام الضمان الاجتماعي تتزايد بينما تتراجع مساهمات المواطنين الإيطاليين بسبب تقدّمهم في السنّ وخروجهم من سوق العمل. ففي حين أن العمّال المهاجرين هم من الشباب، أي أنّ مدة عملهم ومساهماتهم طويلة، فإنّ معدّل أعمار السكان المحليين مرتفعة وبالتالي تتراجع مساهماتهم بينما استفادتهم من معاشات التقاعد كبيرة.

ويلفت بويري إلى أنّ نسبة مساهمة الشباب العاملين الأجانب قدّرت بـ 27 في المائة في عام 1996 ووصلت إلى 35 في المائة في عام 2015، وأنّ عدد المساهمين في نظام التقاعد ارتفع بنحو 150 ألف عامل جديد، بالإضافة إلى أنّ الأجانب يغادرون إيطاليا قبل بلوغهم سنّ التقاعد أو لا يطالبون بحقوقهم. وهو ما يعني أنّهم يموّلون صندوق الضمان الاجتماعي للإيطاليين من دون منفعة لهم.

"بزنس" الهجرة

في شوارع مدينة سيراكوزا التي تبعد 860 كيلومتراً عن روما، يعترض المارة عشراتٌ من المهاجرين، القصّر خصوصاً، والسبب أنّ عدداً كبيراً من مراكز الإيواء موجود في المدينة بحكم قربها من الخط الأول لمراكز تجميع هؤلاء بعد انتشالهم من القوارب في بوتسالو. وتفيد معلومات حصل عليها "العربي الجديد" بأنّ مراكز الإيواء تلك لا تعود إلى جمعيات خيرية وإنّما إلى ما يسمّى بالتعاضديات الشبيهة بشركات يؤسسها أفراد ولا تتبع للحكومة. لكنّ الحكومة تموّلها بمبالغ تتراوح بين 30 يورو و45 أو 52 يورو يومياً، مقابل كلّ مهاجر بحسب السنّ ومدّة الإقامة وغيرها من المعايير. وتكشف مصادر "العربي الجديد" أنّ "ثمّة شبكات وشخصيات سياسية تقف وراء تلك التعاضديات، وربّما تتورط المافيا كذلك في تلك العملية التي صارت مربحة بطريقة لا شكّ فيها".

قلق وترقّب (ألبيرتو بيتسولي/ فرانس برس) 

ويذكر ناشطون من المجتمع المدني في إيطاليا لـ"العربي الجديد" كيف أنّ البلاد اهتزت في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2014 على أثر ترصّد مكالمة هاتفية بين سالفاتوريه بوتسي أحد رجال المافيا ومساعدة له، قال في خلالها إنّ "المداخيل الآتية من المهاجرين أكثر من مداخيل المخدرات". وقد اعتقلت الشرطة الإيطالية حينها 36 شخصاً من تلك العصابة التي كانت تأتمر بزعيمها ماسيمو كارميناتي الذي يُعرَف بـ"آخر ملوك روما". وبحسب موقع صحيفة "ليسبرسو" الإيطالية، فإنّ فكرة تحويل الأعمال الاجتماعية إلى أعمال تجارية أتت بوتسي وهو في السجن في ثمانينيات القرن الماضي، بتهمة الحرق العمد. وفي عام 2013، نجح بإغلاق بيانات مجموعته المالية بنحو 53 مليون يورو. والعائدات هي من خدمات اللاجئين والمشرّدين، فضلاً عن أعمال الحراسة والصيانة الخضراء وإدارة النفايات في العاصمة. وكشفت التحقيقات وقتها أنّ فواتير بعشرات ملايين اليورو قدّمتها التعاضديات التي كانت تديرها المافيا. هكذا تمكّن بوتسي من الحصول على أموال أوروبية كذلك. على سبيل المثال، حصل في عام 2011 على 234 ألفاً و400 يورو من الصندوق الأوروبي للاجئين، 130 منها مباشرة من بروكسل والأخرى من الدولة.


شهدنا بأمّ العين

في السياق، تمكّن "العربي الجديد" من الدخول إلى أكثر من مركز إيواء، فتبيّن لنا أنّ في كلّ واحد 15 مهاجراً على أقلّ تقدير، تحت إشراف نحو ثمانية أشخاص يهتمون بالطبخ والتنظيف والمتابعة التربوية وغيرها. وهذا يعني أنّ إيطالياً واحداً يُشغَّل لكلّ مهاجرَين اثنَين. وكلّ مركز إيواء يضمّ 15 طفلاً يدرّ مداخيل تقدّر بأكثر من 20 ألف يورو شهرياً، وثمّة من يشرف على أكثر من مركز في الوقت نفسه. وفي حال افترضنا أنّ كلّ هذه الأموال تُصرَف على المهاجرين، فإنّ العملية تصير ذات مردود تشغيلي مهم لإيطاليا. ومتى كان الاستثمار الخاص خاسراً؟ وهنا لا نحتسب تشغيل الشرطة والجيش وساعات العمل الإضافية. على سبيل المثال، يرافق شرطيان كلّ مهاجر يُرحَّل إلى بلده، الأمر الذي يعني حوافز وانتدابات جديدة يموّلها بجزء كبير الاتحاد الأوروبي. ومن يتسلّم التمويل هو الحكومة الإيطالية التي تفاجأ بالمهاجرين منذ أربعة عقود.

وهذه المعطيات كلّها تدلّ على أنّ إيطاليا تستفيد بأكثر من طريقة من ملف الهجرة، لكنّ ذلك لا ينفي وجود جهات تطوعية كثيرة غاية عملها إنسانية بحتة. وقد دخل بعضها بالفعل في مواجهة مباشرة مع الحكومة الإيطالية، وتلقّت تهديدات بسجن الناشطين في إطارها، لكنّ ذلك لم يثنها عن نضالها الإنساني. والإنسانية سمة لدى الشعب الإيطالي عموماً، تحاول الأحزاب اليمينية المتطرّفة تغييرها. كذلك، ثمّة شخصيات سياسية كبيرة دخلت في حرب مفتوحة مع اليمين المتطرّف دفاعاً عن المهاجرين ولإبراز الحقيقة التي تعمل جهات كثيرة على تشويهها أو طمسها.
المساهمون