في كلّ فصل شتاء، يعود الحديث عن المشرّدين في فرنسا، وفي عاصمتها باريس خصوصاً، لا سيّما أنّ عددهم إلى تزايد بحسب جهات مطّلعة على هذا الملفّ الشائك.
تقدّر الجمعيات المعنية بشؤون المشرّدين عدد هؤلاء في فرنسا بأكثر من 200 ألف شخص، وهو رقم ارتفع بالمقارنة مع العام الماضي بنسبة 15 في المائة. وبحسب ما تفيد بيانات "كوليكتيف ليه مور دو لا رو" أو "تجمّع موتى الشارع" الذي تأسس في عام 2002، فإنّ عدد المشردّين الذين لقوا حتفهم في عام 2018، بلغ 612 شخصاً. و"تجمّع موتى الشارع" يهدف إلى إطلاع الرأي العام على واقع أنّ "كثيرين من الذين يعيشون في الشارع يموتون فيه"، بالإضافة إلى أنّه يعمل على تطوير أساليب عمل ضرورية في هذا الإطار، منها البحث، فيما يتناول الأسباب التي تؤدي إلى موت المشرّدين، والتي تكون عنيفة في معظم الأحيان. ويحصي التجمّع الموتى في شوارع فرنسا ويوثّق أسماءهم، وينظّم لهم مراسم دفن لائقة، بالإضافة إلى مرافقة أفراد من عائلات هؤلاء الموتى في حدادهم، من دون تمييز اجتماعي ولا عرقي ولا سياسي ولا ديني.
ويستعرض التجمّع في تقريره الأخير الذي نشر في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2019، على موقعه الإلكتروني، حالة كريم واحد من المشرّدين من أصول عربية، توفي عن 65 عاماً. هو انتهى في الشارع بعدما أدّى إدمانه الكحول إلى انهيار زواجه وحياته العائلية عموماً وكذلك تلك المهنية. كريم كان يعمد إلى تعنيف زوجته، ومن جهة أخرى راحت ديونه تتراكم، وقد أودع مستشفى للأمراض النفسية والعقلية لمدّة من الزمن. وبعدما تلقّى مساعدة من جمعيات مختلفة، حاول تنظيم حياته فتبنّى كلباً وحصل على سكن أقام فيه وحيداً، لكنّه عاد إلى إدمانه فتدهورت صحته قبل أن يفارق الحياة... وحيداً في الشارع. ويكشف "تجمّع موتى الشارع" في التقرير نفسه أنّ 87 في المائة من المشرّدين الذين لقوا حتفهم في الشارع في عام 2018 هم من الرجال، وتسعة في المائة من النساء، فيما لم يُعرَف جنس الميّت في أربعة في المائة من الحالات. ومتوّسط سنّ الوفاة بالنسبة إلى هؤلاء هو 51 عاماً، علماً أنّ مأمول الحياة لدى الفرنسيين عموماً يصل إلى 82.18 عاماً.
وتؤكد بيانات بلدية باريس معطيات الجمعيات المعنيّة بشؤون المشرّدين، في ما يتعلّق بارتفاع عدد هؤلاء. وبحسب إحصائية للبلدية نفّذها 2100 متطوّع وعضو في جمعيات تساند المشرّدين، ونُشرت نتائجها في السابع من فبراير/ شباط 2019، علماً أنّها إحصائية سنوية تجري في بلدية باريس ومدن فرنسية كبرى، فإنّ عدد هؤلاء ارتفع في خلال عام واحد من 3035 شخصاً إلى 3622 شخصاً. الإحصائية لم تشمل جميع المشرّدين، لأنّ بعضهم لا يستقرّ في مكان محدد، ولأنّ ثمّة "وافدين جددا"، من بينهم مهاجرون رُفضت طلبات حصولهم على لجوء وإقامة أو لم تستوعبهم مراكز الإيواء والتوجيه التي تشرف عليها الحكومة الفرنسية. وبحسب إحصائية البلدية نفسها، ثمّة ما يبعث على القلق وهو أنّ كثيرين من هؤلاء المشرّدين موجودون في الشارع منذ فترة طويلة، و58 في المائة منهم لا سكن لهم منذ أكثر من عام، علماً أنّ نسبتهم قبل عام كانت 46 في المائة.
وتفيد إحصائية بلدية باريس نفسها بأنّه على الرغم من وضع السلطات الفرنسية رقماً ساخناً مخصّصاً لمساعدة المشرّدين في الإيواء، وهو 115، فإنّ 60 في المائة تقريباً ممّن لا مأوى لهم لم يستخدموه قطّ. وتكثر الأسباب، فيتحدّث بعض منهم عن "غياب الأمان" في مراكز الإيواء أو "نقص الأمكنة" أو ببساطة عدم امتلاك الشخص المحتاج إلى الإيواء هاتفاً محمولاً بالإضافة إلى "حاجز اللغة" إذ إنّ كثيرين من المشرّدين هم من أصول أجنبية.
وحرصاً منها على عدم سقوط ضحايا من بين المشرّدين بسبب البرد، قرّرت بلدية باريس تفعيل خطة طوارئ شتوية، الأمر الذي يعني تعزيز قدرات الإيواء من خلال فتح أمكنة عامة إضافية لإيواء من لا سكن له، وذلك بالتنسيق مع الحملة الشتوية التي أعلنتها الدولة الفرنسية لموسم شتاء 2019 - 2020 لإيواء سبعة آلاف مشرّد. وهو ما يعني في مدينة باريس، فتحت أماكن إيواء تَسَع 3200 شخص حتى نهاية فصل الشتاء، أي 31 مارس/آذار 2020. يأتي ذلك إلى جانب قدرة على استيعاب 23 ألف مشرّد على مدار العام.
كذلك فتحت بلدية باريس أبواب قاعات رياضية لاستقبال المشرّدين في خلال ساعات النهار، الأمر الذي يسمح لهم باستراحة وطعام وإمكانية استحمام. كذلك، يُعَدّ الأمر فرصة لتدخّل طاقم طبي بهدف إسعاف المرضى منهم. وفي سياق متصل، اقترحت بلدية باريس على الدولة، تحديداً السلطات التي تملك صلاحية الإيواء الطارئ، عشرات المواقع التي تتّسع لأكثر من ألف شخص في العاصمة.
ولأنّ كثيرين من هؤلاء المشرّدين لا يتوجّهون تلقائياً إلى مراكز الإيواء، فقد عملت البلدية على تعزيز دور وحدة مساعدة المشرّدين، وهو ما يعني البحث عنهم حتى في ساعات الليل في الغابات المحيطة بالعاصمة بهدف مساعدتهم. ويزداد القلق على مصير هؤلاء في خلال فترة الصقيع، لذا فُعّلت خطة خاصة بالبرد تعمل على مستويات ثلاثة بحسب درجات الحرارة. ويبقى أنّه على الرغم من كلّ ذلك، وكما في كلّ عام، سوف تُنشَر وتُبَثّ أخبار مشرّدين لقوا حتفهم في الشارع لأنّ أيّ إغاثة لم تصلهم أو لأنّها وصلت بعد فوات الأوان.