كيف تصير المدن الإيرانية بحلول عام 2050؟ سؤال يُطرح، في ظلّ تزايد الهجرة الداخلية إليها، في حين تسجّل حركة محدودة بعض الشيء في الاتجاه المعاكس.
كثر في إيران يرون أنّ حال المدن في هذا البلد أفضل بكثير من حال القرى والأرياف، وأنّ حال المدن الكبرى يتفوق على ما أحوال المدن الأصغر لجهة الحجم وعدد السكان، في حين يرى آخرون - كثر كذلك - أنّ العاصمة طهران تبقى "المدينة الحلم"، وكل ذلك يزيد من معدّلات الهجرة الداخلية إليها خصوصاً وإلى المدن الإيرانية الأخرى عموماً.
تفيد بيانات دائرة التقنيات والمعلومات التابعة لبلدية طهران بأنّ 75 في المائة من الإيرانيين سوف يصيرون سكان مدن بحلول عام 2050، أي بعد أكثر من ثلاثة عقود بقليل، وهو ما سوف يترافق مع انخفاض في مستوى المعايير المعيشية إذا لم يسعَ المعنيون إلى تطوير الحياة في المدن وجعلها تتناسب مع التقنيات الذكية التي تسهّل حياة هؤلاء. وبحسب الدائرة ذاتها، فإنّ نسبة سكان المدن في إيران ككلّ في الوقت الراهن تقارب 65 في المائة من إجمالي عدد السكان البالغ 80 مليون نسمة. وفي طهران التي بلغ عدد سكانها العام الماضي 13 مليوناً تقريباً، فإنّ النموّ السكاني فيها يرتفع بمعدل 1.79 في المائة سنوياً، نتيجة ارتفاع نسبة المواليد وزيادة عدد المهاجرين نحوها من المناطق الثانية.
من جهته، يبيّن مركز الإحصاء الرسمي أنّه خلال الأعوام الخمسة الماضية، بلغ عدد المهاجرين من طهران إلى مناطق أخرى 350 ألف شخص تقريباً، وتوجّهوا في الغالب إلى المحافظات الشمالية في البلاد، في مقابل هجرة 517 ألف شخص إليها خلال الفترة ذاتها. يُذكر أنّ هؤلاء الذين قصدوها أتوا بمعظمهم من المحافظات الثلاث ألبرز ولرستان وهمدان، بهدف تحسين وضعهم المعيشي. وتؤشّر بيانات مركز الإحصاء إلى أنّ الخارجين من طهران هم من كبار السنّ غالباً، فالمناطق الشمالية الساحلية هي الأكثر خضرة والأكثر اعتدالاً في حرارتها والتي لا تعاني من مشكلات تلوّث وجفاف.
يوضح أستاذ العلوم الاجتماعية المتخصص في الدراسات السكانية ومسائل الهجرة، حبيب الله زنجاني، أنّ "الأسباب التي زادت الهجرة إلى طهران والمدن الكبرى الأخرى هي ذاتها القائمة حتى اليوم، وهي التي سوف تتفاقم مع مرور السنين. وقد أضيف إلى قائمتها في الأعوام الماضية عاملا الجفاف والتغيّرات المناخية اللذان دفعا سكاناً كثيرين إلى ترك مناطقهم والتوجه نحو المدن".
ويلاحظ من يسكن مدينة طهران ازدياداً في عدد السكان مع مرور السنين، ويلاحظ كذلك أنّ الهجرة إليها لم تعد تنحصر بالعائلات التي يبحث أربابها عن عمل أفضل لتوفير ظروف معيشية مناسبة، فالشبان العازبون يبحثون هناك عن عمل والشابات يهدفنَ إلى إكمال دراستهنّ في جامعات أفضل وإلى البحث عن عمل بالتزامن مع ذلك. لكنّ طهران مدينة تشبه مدناً إيرانية ثانية من قبيل أصفهان، فلا تخلو من المشكلات، في حين أنّ تكاليف الحياة فيها باهظة. يُذكر أنّ سكانها عاشوا في العام الماضي على سبيل المثال، مائة يوم ملوّث وهو ما يعني تبعات خطيرة للغاية على صحة السكان. ومن المتوقع أن تتفاقم المشكلة لتصير أشدّ خطورة، في حال استمر التدفق السكاني إليها في خلال العقود المقبلة من دون إيجاد حلول جذرية لها.
ويتزامن ارتفاع معدلات الهجرة الداخلية مع زيادة عدد سكان الضواحي والمناطق المحاذية للمدن حيث الأبنية غير مطابقة للمعايير والمواصفات، وهو ما يعني كذلك تهديداً لحياة الوافدين إليها وغير القادرين على توفير تكاليف السكن في مناطق ملائمة. وفي هذا الإطار، يقول عضو مجلس مدينة طهران، ناهيد خدا كرمي، إنّ "عدد سكان الضواحي حول المدن الكبرى في ارتفاع، لا سيّما حول مدينة طهران، وهو ما حوّل ذلك إلى ظاهرة". يضيف أنّ "كثراً يرغبون في تحسين معيشتهم، لكنّ توفير ظروف أفضل في المدن الأصغر حجماً وتحسين الأوضاع الاقتصادية فيها ورفع مستوى معايير الجودة والرفاهية قد تزيد من فرص العمل فيها وتحدّ من الهجرة الداخلية كذلك".
ويتابع خدا كرمي أنّ "مشكلات المجتمع في المدن الكبرى تهدد سلامة السكان، لذا خصص مجلس مدينة طهران لجنة معنيّة بهذا الشأن لتحدد المشكلات وتحاول رسم حلول لها". لكن، بطبيعة الحال، فإنّ ذلك لا يكفي وحده. وبحسب دائرة التقنيات والمعلومات التابعة لبلدية طهران، فإنّ طهران سوف تصير بحلول عام 2010 أقل مستوى بنسبة 15 في المائة لجهة معايير جودة المعيشة فيها، بالمقارنة مع غيرها من المدن في العالم. وتشدد البلدية على ضرورة تطوير الحياة واستخدام التقنيات الذكية بالتزامن مع الارتفاع التدريجي لعدد السكان في تلك المدينة.
ولعلّ أبرز المشكلات التي تعانيها طهران، والتي من المتوقع أن تتفاقم وتؤدي إلى تراجع الحياة في المدينة مع زيادة عدد السكان، هي تلك المتعلقة بتلوّث الهواء وبالازدحام المروري الخانق. ويقول المتخصص بهندسة المدن وتخطيط الطرقات، مرتضى عمراني، إنّ "تصنيف المدن وفقاً لجودة الحياة فيها يعتمد على تطوّر المعيشة والخدمات، باستخدام التقنيات والتكنولوجيا. وهو ما يحسّن طريقة العيش". يضيف عمراني لـ"العربي الجديد" أنّ "تلك التقنيات قد تساعد في حلّ مسائل الازدحام، وتوفّر الخدمات وطريقة حصول المواطنين عليها بسهولة. وكلّ هذا يرفع من مستوى المعايير المعيشية في المدن وجودتها". وعن وضع طهران الحالي بالمقارنة مع بقية مدن العالم، يرى عمراني أنّ "ثمّة نواقص عدّة حتى الآن والمدينة لا تستخدم التقنيات الذكية المتاحة التي من شأنها أن تحسّن الوضع المعيشي في خلال العقود المقبلة كذلك".
ويلفت عمراني إلى أنّ "ثمّة مناطق من قبيل تلك التي نجدها في شمال العاصمة، تصنّف ذات مستوى معيشي جيّد جداً وتستفيد كذلك من التقنيات، لكنّ هذا لا ينطبق على المناطق الباقية"، مضيفاً أنّ "البنى التحتية ما زالت غير مجهّزة لكلّ هذا العدد من السكان، خصوصاً ما يرتبط بوسائل النقل العام، لذا يجب توسيع شبكات قطار الأنفاق لتشمل كل المناطق في المدينة. كذلك فإنّها ما زالت غير معتمدة على التقنيات الذكية في حركة الحافلات، التي يؤدّي استخدامها إلى التنظيم ورفع مستوى المعيشة في المدينة". ويؤكد عمراني أنّ "كل ذلك يتطلب تعاوناً جاداً وإدارة صحيحة، فضلاً عن مشاركة القطاع الخاص ورؤوس الأموال المحلية، وإلا سوف تبقى طهران تعاني من مشكلات تتفاقم كلّما ارتفاع عدد السكان".
تجدر الإشارة إلى أنّه في خلال الأشهر الماضية، زاد الحديث عن ارتفاع معدلات الهجرة المعاكسة من مدينة طهران تحديداً نحو مناطق أخرى، وذلك على خلفية مشكلات كثيرة من قبيل التلوّث، بالإضافة إلى وجودها على خطّ زلزالي قد يكون خطراً. لكنّ ذلك لم يتحوّل بعد إلى ظاهرة، والذين يقررون الخروج من المدينة هم سكانها الأكبر سناً أو المتقاعدون، وهذا يعني أنّ الأعداد لن تقارن بكل الدفعات السكانية التي ما زالت تأتيها من مناطق ثانية.