"تابو" في تركيا.. التحرّش لا يرحم أطفالها

18 ابريل 2016
الصغار عرضة للاستغلال حتى من الأقربين (Getty)
+ الخط -

عاد التحرّش الجنسي ليتصدر قائمة المواضيع الساخنة على المستوى السياسي والإعلامي في تركيا، بعد وقوع عدد من الحوادث كان آخرها بداية شهر مارس/آذار الماضي، حين اعتقلت الشرطة في ولاية كارامان (غرب) المدرّس معمر ب. (52 عاماً) الذي يعمل في إحدى المدارس الابتدائية في المدينة. هو كان متطوعاً في إحدى المؤسسات التعليمية الخيرية، وقد أظهرت التحقيقات والتقارير الطبية أنه اعتدى جنسياً على عشرة تلاميذ ذكور في المؤسسة.

يقبع هذا المدرّس اليوم في السجن، وقد طالب الادعاء العام في المحكمة الجنائية بسجنه لمدة 600 عام، بتهم عدة منها الاعتداء الجنسي على الأطفال وتقييد حريتهم والإيذاء المتعمد وتعريضهم لمشاهدة صور وتسجيلات فيديو فاضحة.

لم تمضِ أيام على هذه الحادثة، حتى اعتقلت الشرطة في ولاية أرتفين (شمال شرق) أحد المدرّسين في المرحلة الثانوية بتهمة التحرش الجنسي بالأطفال أيضاً، بعدما عمد أحد تلاميذه السابقين الذين تعرّضوا لذلك عام 2002 إلى زيارة المدينة بعد تخرّجه من الجامعة وتعيينه مدرّساً. عرف أن مدرّسه السابق ما زال يتحرش بالأطفال فتقدّم بشكوى ضده. وقد أظهرت التحقيقات أنه خدع اثنَين من تلامذته الذكور واستدرجهما إلى منزله.

كذلك، تناولت وسائل الإعلام تعرّض فتاة تبلغ من العمر 13 عاماً للاعتداء الجنسي المتكرّر من قبل والدها وعمها وشقيقها الأكبر في ولاية غوروم، فيما أثبتت تحاليل الحمض النووي أنها حامل من والدها. أخبرت الفتاة مدرّستها بما حصل معها، فسارعت الأخيرة إلى إبلاغ الشرطة.

وشدّد البرلمان التركي العقوبات بحق مرتكبي العنف الجنسي عام 2012. ولمواجهة هذه الجرائم، شُكلت لجنة نيابية جديدة مؤلفة من جميع الأحزاب السياسية للتحقيق في هذه الجرائم، واقتراح إصلاحات قانونية وتنظيمية للحد منها، وزيادة حماية الأطفال الأتراك. وعلى غرار معظم المجتمعات في الشرق الأوسط، يبقى موضوع التحرّش الجنسي واغتصاب الأطفال من المحرّمات في المجتمع التركي. الأهل يتحاشون الحديث عنه، خوفاً على سمعة أطفالهم، أما الأخيرون فيخشون الشكوى. لذلك، لا يمكن تقديم إحصاءات دقيقة في هذا الشأن، إلا من خلال تتبّع محاضر الشرطة. بحسب مركز الإحصاء التركي التابع للحكومة، تقدّم 11 ألفاً و95 طفلاً بشكاوى لتعرّضهم للاستغلال الجنسي، منهم 377 ذكراً في عام 2014.

وتفيد البيانات المتوفّرة بأن الفئة العمرية التي تتراوح ما بين 15 و17 عاماً، تشكّل 57.6 في المائة من مجموع الذين تقدموا بشكاوى، بينما تشكّل الفئة العمرية التي تتراوح ما بين 12 و14 عاماً 23.9 في المائة. أما النسبة المتبقية، فهي تشمل من تقلّ أعمارهم عن 11 عاماً. وكانت للمدن الكبيرة الحصة الأبرز في عدد الشكاوى، فحلت إسطنبول في المرتبة الأولى مع 1234 شكوى، ومن ثم إزمير مع 786 شكوى، وأضنة مع 528 شكوى، وأنطاليا مع 524 شكوى، ومرسين مع 463 شكوى، وأنقرة مع 424 شكوى، وقايسري مع 419 شكوى، ودياربكر مع 334 شكوى.




توعية

يؤكد رئيس قسم الطب الشرعي في جامعة "أجي بادم" في إسطنبول، وممثل تركيا في جلسات اتفاقية حقوق الطفل في الأمم المتحدة، أوغوز بولات، أن هناك ارتفاعاً ملحوظاً في هذه الجرائم على مستوى العالم. ويوضح أن الأمر لا يخص تركيا فحسب، إلا أننا في حال قارنا تركيا بالدول الاسكندنافية التي تُعنى بحقوق أفرادها، فإننا نجد الأرقام مرتفعة. يُذكر أن الأمر قد ينعكس، في حال قورنت تركيا بالدول الأفريقية.

يقول بولات: "كنا من أولى الدول التي وقّعت على اتفاقية حقوق الطفل. لكن ماذا فعلنا لتطبيقها بالمقارنة مع دول أخرى؟ على سبيل المثال، في حال اشتكى أحد الأطفال من تعرضه للتحرّش، لن يتردد أحد في نشر الخبر، وإن كانت الأمور قد تحسنت قليلاً في ظل منع الإعلام من تداول الأسماء والحديث بالتفاصيل". ويشير إلى "وجوب أن يعرف المجتمع بهذه الحوادث، مع الحفاظ على خصوصية المجني عليه، سواء في أقسام الشرطة أو في المجتمع. لا بد من التعامل بحساسية عالية مع الأمور التي تتعلق بالأطفال".

يتابع بولات أن التعامل مع هذه الجرائم له أبعاد كثيرة، ولا يقتصر الأمر على العاملين في المجال الصحي أو الشرطة أو المحكمة. ويشدّد على أن "ما زلنا نفتقد إلى ثقافة العمل الجماعي، في حين أن السرعة في التعامل مع هذه الحوادث يعدّ أمراً في غاية الأهمية. على سبيل المثال، يمكن الاتصال بالرقم 183 للحصول على المساعدة الاجتماعية والقضائية في الشكاوى المتعلقة بالعنف ضد الأسرة والمرأة والطفل". ويسأل: "كم شخص في تركيا يعلم بوجود هذه الخدمة؟". تجدر الإشارة إلى أنه عند البدء بهذه الخدمة، كان هناك دوام رسمي. لكن في الوقت الحالي، باتت هذه الخدمة متوفرة على مدار الساعة، إلا أن المشكلة تتمثل في البطء. في الدول المتقدمة، تصل الشرطة إلى مكان الحادثة خلال ثماني دقائق فقط، ليلحق بهم المتخصصون. أما في تركيا، فالشرطة تصل في اليوم التالي، بالإضافة إلى عدم وجود العدد الكافي من المتخصصين القادرين على التعامل مع هذه الحوادث ومساعدة الأطفال على الكلام".

عن أسباب ارتفاع الاعتداءات الجنسية على الأطفال، يقول بولات إن "من غير الممكن الحديث عن أسباب معينة وواضحة أدت إلى ارتفاع هذه الجرائم. يمكن البحث في تفاصيل عدة، منها ما يتعلق بالبعد الاجتماعي، وارتفاع معدلات العنف، وانتشار الحروب، وانعكاس العنف الاجتماعي على العنف الفردي، الذي يؤدي بدوره إلى عنف جسدي وعنف عاطفي. لكن في نهاية المطاف، لا يمكن الحديث عن أي سبب دون غيره". يضيف: "بطبيعة الحال، فإن هذه الحوادث لا تخصّ طبقة معينة اجتماعية أو اقتصادية في المجتمع دون غيرها. هي مشكلة عامة، وتزيد في الأماكن التي يسهل فيها الوصول إلى الأطفال بعيداً عن أهلهم، كالمدارس والمؤسسات الدينية ووسائل المواصلات والنوادي الرياضية وغيرها".

ويشير بولات إلى أن هناك إجراءات عديدة يمكن تنفيذها للحد من هذه الحوادث، وفي مقدّمتها التوعية المجتمعية، مشدداً على أن الأمر لا يقتصر على التوعية حول التحرّش الجنسي بل من الضروري توعية الأطفال حول حقوقهم في المدارس. يضيف: "يجب على الطفل أن يعرف حقوقه وكيفية التصرف في حال تعرضه لاعتداء ما، والأهم أن يدرك أن هناك اعتداء". يتابع: "لا بد من تغيير الفكرة الموجودة في المؤسسات بشكل عام، والتي تسعى إلى التغطية على هذه الحوادث حفاظاً على سمعتها. هذا الأمر يؤذي المجتمع ككلّ، قبل كل شيء".



اللمس ممنوع

من جهتها، تقول المعالجة النفسية فوليا كايا تيزال إن "الفكرة السائدة في المجتمع هي أن الذكور البالغين هم الذين يعتدون على الأطفال، في أغلب الأحيان. لكن هذه فكرة خاطئة، لأن الأطفال يتعرضون للتحرش من قبل النساء أيضاً، اللواتي يملن أكثر إلى التحرش بالأطفال الذكور. تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء أكثر قدرة في التستر على الأمور". وتلفت إلى أن عواقب التعرض للاعتداء والتحرش الجنسي قد تكون مؤذية جداً على المدى الطويل، ولا بد من استشارة متخصصين لدى اكتشاف تعرض الطفل لذلك، أياً كان شكله. وتوضح أن "في حال لم تعالج الصدمات الجنسية باكراً، فإنها قد تتحول إلى عقد يصعب معها عيش الحياة بشكل طبيعي. على سبيل المثال، صادفت نساء كثيرات كنّ قد تعرضن للتحرّش، تحدّثن عن معاناتهن بعد الزواج. وفي إحدى المرات، أخبرني رجل أنه ما زال يرفض الزواج والإنجاب خشية أن يتعرض أطفاله للتحرّش".

وإلى الخطوات العملية لحماية الأطفال من التعرض للاعتداء، تقول تيزال: "قبل كل شيء، على الأطفال أن يعوا وفي عمر مبكر بأن أجسادهم ملك لهم وحدهم، ويتعلموا كيفية الحفاظ عليها. لذلك، لا بد على الأهل أن يكونوا حذرين في طريقة تعاملهم مع أجساد أطفالهم، وألا يلمسوا أعضاءهم الجنسية إلا عند الضرورة، أو من قبل الطبيب". وتشدد على "أهمية عدم لمس هذه الأعضاء أو تقبيلها من قبل الأهل حين يرغبون في ذلك، كي لا يسمح الطفل للآخرين بأن يفعلوا الأمر نفسه، بالإضافة إلى الطلب من الأطفال إبلاغ الأهل في حال تعرضهم لمواقف مماثلة".

وتشير تيزال إلى "وجوب أن يخبر الآباء أطفالهم أن قول لا للبالغين ليس أمراً خاطئاً، وعليهم كذلك أخذ كلام أطفالهم على محمل الجد. يجب عليهم أن يتقصوا ويبحثوا. والأهم من ذلك، لا يجب منع الحديث في المنزل حول المواضيع الجنسية، بل يجب أن يحصل ذلك بأريحية حتى لا يخاف الطفل أو يخجل من الحديث عما أصابه في حال تعرض للتحرّش، وهو الأمر الذي يمنع تفاقم الأمور".

وتوضح تيزال أن على الرغم من الإجراءات التي قد يتخذها الآباء لحماية أبنائهم، إلا أن التحرش والاعتداء قد يحصلا في أي وقت، وقد يكون الطفل تحت التهديد أو يخشى الحديث عن الأمر. وتشير إلى "مجموعة من الأعراض التي قد تكون مؤشراً إلى أن الطفل يمر بأزمة قد تكون ناتجة عن تعرضه لاعتداء أو تحرش جنسي. ومن تلك الأعراض، مشاكل صحية في الأعضاء التناسلية كظهور بثور أو آلام أو إفرازات غير عادية. كذلك، في حال بالغ الطفل في رد فعله إذا ما لمسه أحدهم، وإذ ما اشتكى من آلام في بطنه لا علاقة لها بأي مشاكل صحية، وعانى من صعوبة في النوم، وبات يرفض الاستحمام بعدما كان يفعل ذلك من دون أي اعتراض، وصار يكثر من الأحاديث الجنسية، ويمارس العادة السرية بشكل متزايد في أماكن لا تؤمن له الخصوصية، وراح يفكر في الهرب من المنزل، ويظهر ميلاً إلى الانتحار والاكتئاب، ويعاني من اضطراب في تناول الطعام، ويبتعد عن أصدقائه، ويفضل الانسحاب وعدم ممارسة الأشياء التي كان يحبها سابقاً، ويميل إلى العنف والعدوانية حيال الآخرين وغيرها".