سبت دوما الأسود... هجوم كيماوي يخلّف الفظائع

09 ابريل 2018
الصغيرة تعرّضت لتلك الهجمات (منيب تيم/ الأناضول)
+ الخط -


تشير المعطيات التي جمعها "العربي الجديد" إلى استخدام نوع غير عادي من السلاح الكيماوي في دوما السورية، وذلك بالاستناد إلى شهادات أطباء وناشطين بالإضافة إلى الصور الواردة من هناك.

بعد أكثر من 12 ساعة على هجوم النظام السوري الكيماوي على مدينة دوما، كانت رائحة الغازات السامة لا تزال واضحة في أجواء المدينة السوريّة المنكوبة، وذلك على الرغم من أنّ القاعدة العلميّة تؤكد تبدد المواد الكيماوية خلال ستّ ساعات فقط. بالتالي، يبدو أنّ الجرعة الكيماوية التي اختنق بها السوريون من سكّان المدينة ثقيلة جداً.

وكانت دوما في حالة "تهدئة مؤقّتة" ريثما يجري التوصّل إلى اتفاق بين روسيا و"جيش الإسلام" الذي يسيطر عليها، لكنّ هذه التهدئة توقّفت مع إعلان النظام السوري عند الساعة الثالثة من عصر يوم الجمعة الماضي أنّه "اتخذ قراراً بالحسم العسكري" بعدما تعثّرت المفاوضات. فخرجت طائرات حربية تابعة للنظام السوري وأخرى روسية لتتناوب على شنّ ما لا يقلّ عن 40 غارة جوية، أسفرت مجتمعة عن مقتل نحو 45 مدنياً وإصابة العشرات بجروح. بموازاة ذلك، استمرّ القصف بالراجمات الصاروخية طيلة ليل الجمعة - السبت وحتّى الصباح.

وعند الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر يوم السبت الماضي، وردت معلومات إلى الدفاع المدني تفيد بأنّ هجوماً كيماوياً استهدف دوما، لكنّ الفرق الطبّية فشلت في الوصول إلى المصابين بسبب كثافة القصف الذي يجعل التجوّل في داخل أحياء دوما أمراً مستحيلاً، بحسب ما يشير مصدر في الدفاع المدني لـ "العربي الجديد". يضيف المصدر نفسه أنّه "وبعد نحو ساعتَين ومع المخاطرة، توجّهنا إلى المكان المشتبه في تعرّضه للهجوم الكيماوي. فسحبنا منه 15 مصاباً ونقلناهم إلى نقطة طبية في داخل دوما. هؤلاء ظهرت عليهم آثار تؤكد تعرّضهم لهجوم الكيماوي". ويلفت إلى أنّه "في ذلك الحين، كان القصف لا يزال مستمراً".




إلى ذلك، وعند الساعة الثامنة والربع من ليلة السبت الماضي، راحت طائرات حربية عدّة تتناوب على قصف الغوطة الشرقية، لكنّها تراجعت لتفسح المجال أمام حوّامة مروحية ألقت عدداً غير معروف من البراميل المتفجّرة. تبيّن لاحقاً أنّها أسلحة كيماوية. وبعد دقائق من وقوع الحادثة، بدأت نداءات المدنيين تُوجَّه إلى المستشفيات والنقاط الطبية لإجلاء المصابين. بعد فترة وجيزة من الهجوم، وصل إلى المستشفيات والنقاط الطبية ما يزيد عن 500 مصاب، كانوا بمعظمهم من النساء والأطفال، بحسب ما تفيد الجمعية الطبية السورية الأميركية (سامز) التي تعاملت كوادرها المحدودة مع الحالات. يُذكر أنّ ستّة أشخاص من هؤلاء لم يجرِ إنقاذهم، في حين نُقل آخرون إلى غرفة أنشئت كغرفة عناية مشدّدة إنّما من دون أيّ إمكانات طبية.

وسط الفوضى الواقعة، راحت المعلومات تتضارب حول الأرقام الدقيقة لعدد الضحايا من قتلى ومصابين، من جرّاء تلك الهجمات. وذكرت وسائل إعلامية عدّة أنّ العدد تجاوز 150 قتيلاً مدنياً، فضلاً عن إصابة نحو 1200 شخص بحالات اختناق متفاوتة. من جهتها، تحدّثت جمعية "سامز" عن أكثر من 42 قتيلاً مدنياً، يمثّل الأطفال والنساء النسبة الكبرى منهم. أمّا "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" فحدّدت عدد الضحايا بـ 55 قتيلاً مدنياً، إلى جانب أكثر من ألف مصاب.

ويعيد هنا الناشط إبراهيم الفوال سبب عدم تطابق المعلومات إلى "تهجير القسم الأكبر من الناشطين والإعلاميين من دوما في اتجاه الشمال السوري، وذلك قبل وقوع المجزرة بأيام، بالإضافة إلى ضعف في التواصل مع من بقي من ناشطين في الداخل". ويلفت إلى أنّ "ثلاثة أشخاص فقط داخل دوما يستطيعون الاتصال بالإنترنت، وذلك بعد السير لمسافة تقدّر بنحو 500 متر نحو الجبهات والمرور بطرقات تتعرّض للقصف المدفعي والصعود إلى أسطح المنازل".

يضيف الفوال لـ"العربي الجديد": "السبت الماضي، دخلت في نقاش مع رئيس لجنة المحقّقين الدوليين التي كانت تطالب بتحديد عدد الضحايا والمصابين وتحديد نوع الغاز المستخدم في مدينة دوما. وقد أبلغته بصعوبة التوثيق في داخل دوما بسبب عدم توقّف القصف وعدم توفّر معدّات توثيق كافية، وطالبته بالدخول إلى المدينة من أجل إجراء تحقيق وتحرّ نزيه وفقاً للمعايير الدولية".

تفيد جمعية "سامز" بأنّ المصابين الذين وصلوا إلى النقاط الطبية كانوا يشكون من أعراض تنوّعت بين "زلة تنفسية وزرقة مركزية وخروج زبد من الفم وانبعاث رائحة واخزة تشبه رائحة الكلور، كذلك لوحظت لديهم حروق قرنية". وخلال الفحص السريري، لاحظت "سامز" لدى هؤلاء "بطأً في نبضات القلب وخراخر قصبية خشنة وأزيزاً، في حين وصل أحد المصابين متوفياً. وقد عولج المصابون بالأكسجين الرطب الحرّ والموسّعات القصبية وتحسّنوا بمعظمهم".



في السياق، يقول مدير قسم المناصرة في جمعية "سامز"، الطبيب محمد كتّوب، إنّ "نوع السلاح المستخدم استناداً لتشخيص الحالات ليس غاز الكلور، وإنّما أحد أنواع المركّبات العضوية التي يُعدّ غاز السارين من ضمنها. أمّا تحديد نوع الغاز فيحتاج إلى مخابر للتحليل غير متوفّرة في المنطقة". يُذكر أنّ ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي نشروا صوراً تظهر خروج كميات كبير من الزبد الأبيض من فم المصابين، الأمر الذي يشير إلى تعرّضهم لنوع غير تقليدي من الأسلحة الكيماوية. وبحسب شهادة طبيب فضّل عدم الكشف عن هويّته، فإنّ الكلور لا يؤدّي إلى خروج كميات كبيرة من الزبد، غير أنّه لم يتمكّن كذلك من الجزم حول نوع الغاز.

ويوضح أحد المتطوّعين في الدفاع المدني في الغوطة الشرقية لـ"العربي الجديد"، أنّهم يحاولون الوصول إلى جميع المصابين غير أنّ الأمر شديد الصعوبة بسبب عدم قدرتهم على التنقّل داخل دوما. يضيف وقد فضّل عدم الكشف عن هويّته، أنّ "كل بناء دخلنا إليه، كنّا نعثر فيه على عشرات المصابين، ومعظمهم من النساء والأطفال".

تجدر الإشارة إلى أنّ سكّان مدينة دوما يعيشون بمعظمهم في ملاجئ، وهي عبارة عن أقبية منازل غير مجهّزة. ويتكدّس المدنيون في تلك الأقبية هرباً من القصف، وهذا الأمر ساعد على سقوط مزيد من الضحاياً، بحسب مصادر مطّلعة. ويشرح أكثر من مصدر طبي أنّ وزن الغازات أثقل من وزن الهواء، وهو ما يجعلها تتكدّس في المناطق المنخفضة، لا سيّما في الملاجئ. وهو ما ساعد على تسرّب الغازات السامة إلى داخل الملاجئ وتسجيل عدد كبير من الضحايا. لذا ينصحون في حال وقوع هجوم كيماوي، أن يلجأ الأشخاص المستهدفون إلى أماكن مرتفعة.

من جهة أخرى، يلفت الفوال إلى أنّ "عدد الأطباء والكوادر الطبية الذين هاجروا نحو الشمال السوري يُقدّر بنحو 80 في المائة من مجمل الكادر الطبي الذي كان متوفرّاً في المنطقة، وهو الأمر الذي زاد من صعوبة الاستجابة لكل الإصابات التي تجاوز عددها ألف إصابة". ويوضح أنّ "الطائرات الحربية التابعة للنظام السوري كانت قد أخرجت شعبة الهلال الأحمر في دوما من الخدمة، مثلما أخرجت مستشفى دوما المركزي".




وممّا يُفاقم المشكلة كذلك بحسب الفوال، هو أنّ "الأدوية اللازمة في مثل هذه الهجمات الكيماوية غير متوفّرة داخل مدينة دوما"، موضحاً أنّه "لم تكن تتوفّر داخل الغوطة عموماً إلا كميات محدودة من دواء أتروبين الذي يستخدم عند تعرّض الإنسان إلى مواد كيماوية سامة. وقد جرى استهلاكه خلال هجمات كيماوية سابقة للنظام، بالتالي لم تعد تتوفّر أيّ جرعة منه لمساعدة المصابين والتخفيف من الأضرار". ويشير إلى أنّ "ثمّة مستشفيات في الشمال السوري تملك هذا الدواء بكميات محدودة اليوم، لكنّه غير متوفّر في الغوطة".

إلى ذلك، يصف الفوال الوضع الميداني والإنساني في المدينة بأنّه "كارثي". ويشرح أنّ "قوات النظام لم تتوقّف عن القصف بعد الهجوم الكيماوي، في حين أنّ ثمّة مدنيين ما زالوا (قبل ظهر يوم أمس الأحد) تحت الأنقاض في انتظار عمليات الإجلاء".