حتى يوم أمس، تمكنت إسبانيا من شفاء أكثر من 2500 مصاب بفيروس كورونا الجديد، فيما يستمر علاج نحو ثلاثين ألفاً. البلاد تعيش كارثة لم تعشها منذ قرن، لكنّ حكومتها المركزية تشددت في إجراءات مكافحة الوباء
"في البداية كنا نستمع إلى الأخبار عن فيروس كورونا الجديد المنتشر في إيطاليا، ولم نهتم كثيراً، إلى أن أصاب زوجة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز، بوغنونا غوميز، فاستيقظ الناس على كابوس حقيقي يمكن أن يصيب أيّا منا"، بحسب ما يذكره فرناندو دياز إدواردو، من مدينة روندا في إقليم الأندلس الإسباني، لـ"العربي الجديد".
غير بعيد عن الواقع الإيطالي المأساوي في انتشار العدوى وتزايد أعداد من ماتوا بالمرض، ذهبت الحكومة المركزية الإسبانية في مدريد، بزعامة رئيس الوزراء الاشتراكي، سانشيز، نحو إجراءات لم يعتدها البلد السياحي الأول في أوروبا: "لا تغادروا بيوتكم إلّا للضرورة القصوى". ذكّر الرجل شعبه بخطورة ما يواجه مجتمعه.
في بداية الإرشادات والتوجيهات للمواطنين، بدا البعض غير مكترث بما طلب منه، خصوصاً في المناطق التي تشهد عادة تجمعات بشرية، فالإسبان "شأنهم شأن بقية شعوب المتوسط اجتماعيون ومخالطون أكثر بكثير من الشمال الأوروبي"، بحسب فرناندو، المضطر الآن لترك عمله في منشأة سياحية في روندا متخصصة بمصارعة الثيران، ويقضي معظم وقته مع والديه في الشقة: "فأنت لا ترغب بالمخاطرة بنقل العدوى لهما أو بتغريمك بمبلغ مالي في ظل أزمة مالية متفاقمة". أوامر الحكومة المركزية "الصارمة" بحسب فرناندو، لا تشمل أقاليم بعينها، بل كلّ التراب الإسباني منذ الخامس عشر من مارس/ آذار الجاري.
وبذلك، لا يسمح للمواطنين بالخروج من بيوتهم إلّا إذا كان الأمر متعلقاً بأمور ضرورية جداً ومثبتة "فيمكن لرجال الشرطة، بالرغم من أنّهم لطيفون، أن يطلبوا منك إثبات أنّ وجهتك هي نحو طبيب أو مستشفى، بل حتى وأنت عائد من العمل، إن كان عملك لم يتوقف، يطلبون إثباتاً أنّك كنت في العمل أو تتجه إليه" بحسب ما يذكره من ملقا في الجنوب الإسباني، طالب ماجستير الرياضيات في جامعتها، منذر شهابي، لـ"العربي الجديد"، هو الذي وجد نفسه وسط المدينة معزولاً في بيته مع أطفاله، الذين توقفت مدارسهم. يقول شهابي إنّ المواطنين "لم يأخذوا منذ بداية الشهر الحالي تحذيرات الحكومة على محمل الجد، وللأسف خلال أسبوع كانت الإصابات بكورونا بالآلاف".
الحكومة الإسبانية من ناحيتها ذهبت قبل أيام إلى إعادة التأكيد على أنّه "يحظر الخروج من البيوت إلّا للضرورة القصوى" ليس أبعد من 500 متر عن المجمعات السكنية، وهو ما يؤكده قاطنون في أقاليم إسبانية مختلفة تحدثوا إلى "العربي الجديد". والضرورة القصوى تعني شراء الطعام والدواء أو مساعدة الأقارب، كالوالدين. ومن يخالف تلك التعليمات "ستشهر بوجهه غرامة مالية تقدر بين 300 و1000 يورو، والأمور ليس فيها مزاح، فإن عاند الشخص أو حاول الاعتداء على الشرطة سيزج به في السجن لستة أشهر على أقل تقدير"، وفقاً لما يذكره ماركو ألفاري من فيونخورولا، وهي مدينة سياحية في الأندلس. يذكر ألفاري لـ"العربي الجديد" أنّ "المدينة شبه ميتة، إذ أغلق كلّ شيء، فالكورنيش الذي كان حيوياً ويستقبل عشرات آلاف السائحين، من الداخل والخارج، بات مع منطقة ميخاس وماربيا مناطق أشباح، وهي ضربة قاصمة لأصحاب المطاعم والفنادق وغيرها من الأعمال المرتبطة بالسياحة".
وكان بيدرو سانشيز أعلن بشكل حازم جملة من الإجراءات الجديدة تطاول 46 مليون مواطن، مع إغلاق تام للبلاد وحدودها. وتشمل الإجراءات الحاسمة اللاجئين وطالبي اللجوء، والمهاجرين الذين رفضت طلبات لجوئهم، بسبب عدم التزام الإسبان منذ البداية بتوجيهات الحكومة "كونهم شعباً اجتماعياً، فهم يلتقون في الأحياء الشعبية ويتناولون الطعام معاً وتنتشر بينهم التحية بالقبلات"، كما يصف ألفاري.
القطاع الصحي الإسباني لا يختلف في الضغوط التي يواجهها عن إيطاليا، فآلاف المصابين في مدريد لم يجدوا أسرّة في مستشفياتها. يذكر طبيب، اختار أن نطلق عليه فقط اسم عمر، أنّ سلطات مدريد اضطرت إلى "إنشاء مستشفيات ميدانية، بات أولها جاهزاً أمس الأول الأحد، ويتسع لـ1300 مريض. ففي عموم إسبانيا، كغيرها من الدول، تخصص المستشفيات فقط 5 في المائة من طاقتها لما نطلق عليه العناية المركزة، ولهذا فهناك معاناة حقيقية في الحاجة إلى أجهزة تنفس اصطناعي". يضيف الدكتور عمر، أنّ "السلطات الإسبانية مضطرة لاستقبال معونات طبية من الصين، بعدما وجدت نفسها كإيطاليا من دون سياسة أوروبية مشتركة لمواجهة الوباء، علماً أنّ علاقة الصين بمدريد قوية، وهناك جالية صينية ضخمة في إسبانيا".
وبالفعل، ذكر التلفزيون الإسباني وصحيفة "إل باييس"، الأحد، أنّ "مقاطعة مدريد قامت خلال وقت قياسي (48 ساعة) بإنشاء المستشفى الميداني الضخم وفق معايير منظمة الصحة العالمية بمسافة بين أسرّة المرضى ومحاولة إنقاذ حياتهم، وسيخصص نحو 100 سرير للعناية المركزة".
اقــرأ أيضاً
وتخطط إسبانيا، بسبب كثافة الإصابات في أقاليمها، لإنشاء مزيد من المستشفيات وتوسيع الحالية، ليشمل كلّ واحد منها 3 آلاف سرير، وفي مرحلة لاحقة إلى 5 آلاف، تحضيراً لإدخال مزيد من المصابين. وأسست السلطات الصحية في مدريد مركزاً لوجستياً إقليمياً لاستيعاب جميع التبرعات المتعلقة بكورونا، ويقع هذا المركز في معهد التدريب الشامل على السلامة العامة والطوارئ. وخصصت السلطات أرقاماً ساخنة للتبرع.
وذهب مجلس مدينة مدريد إلى خطوات إضافية، السبت الماضي، بتبني قرار خصص من خلاله افتتاح قاعة في مؤسسة قاعات المؤتمرات في مدريد "افيما" لاحتضان 150 مشرداً لم تظهر عليهم أعراض فيروس كورونا الجديد، وذلك لمساعدتهم في الخروج من الشوارع. وبالفعل، احتشد هؤلاء منذ السبت في القاعة التي خصصت لهم، وهي مزودة بكلّ ما يحتاجونه، بدلاً من حياة التشرد، في وقت شددت الحكومة من قراراتها بعدم التجول.
وعما إذا كان المهاجرون السريون، ومن رُفضت طلبات لجوئهم وتوقف الدعم عنهم، تشملهم الإجراءات الصحية الإسبانية، يفيد الدكتور عمر بأنّ "ما يميز النظام الصحي الإسباني أنّه يسمح حتى للزائرين بالدخول الطارئ إلى مستشفياته وعياداته، والآن وبعد انتشار الوباء جرى تعميم تغطية التأمين الصحي لهؤلاء الذين تُطلَق عليهم تسمية "مهاجرين غير شرعيين"، والمقيمين الذين لا تعرف السلطات بوجودهم". ويؤكد هذا الكلام ماركو ألفاري ومنذر شهابي والمهندسة الدنماركية المقيمة منذ 15 عاماً في الأندلس، لوتا كريستيانسن. يذكر شهابي بعض التفاصيل: "التأمين الصحي يشمل الجميع، بمن فيهم هؤلاء الذين ينتظرون حسم لجوئهم وإقاماتهم في البلاد، وهؤلاء الذين كانت رفضت طلباتهم ولم يغادروا بعد البلاد. ويُجدد تأمينهم الصحي لمدة شهر، والآن مع الحالة الطارئة أصبح الأمر معمماً أنّ التأمين يشملهم من دون سقف زمني طالما بقيت حالة الطوارئ بسبب الفيروس".
وتنتهج إسبانيا، كغيرها من الدول الأوروبية التي أغلقت مؤسسات القطاع العام، بما فيها المدارس ورياض الأطفال، تعليم الصغار عن بعد. وقبيل صرف التلاميذ جرى تزويدهم بواجبات منزلية لمدة أسبوعين ويمكن للأهل التواصل عبر البريد الإلكتروني مع المعلمين.
ولا يسمح للمتصلين بالطوارئ ممن يشكون أنّهم مصابون بكورونا بالذهاب إلى المستشفيات بأنفسهم، فالسلطات الطبية خصصت فرقاً خاصة للتعامل مع الحالات بإرسال سيارة مجهزة إلى بيوت هؤلاء ويجري فحص كلّ أفراد الأسرة، وإن وجدت حاجة لنقل الشخص إلى المستشفى تنقله "أو يجري عزله صحياً في البيت مع متابعة طبية، وهو ما جرى في المجمع السكني الذي نقطنه"، بحسب شهابي الذي يصف مدينته ملقا بأنّها "مدينة أشباح، وأغلقت أبواب 130 فندقاً فيها، ولا يتحرك فيها إلّا المضطرون، وينتشر في الشوارع رجال الشرطة والدفاع المدني والجيش".
من الواضح أنّ الحكومة الاشتراكية المركزية في مدريد لا تأبه كثيراً لدعوات إقليم كتالونيا، المطالب بالانفصال عن إسبانيا، إلى أن تترك الحكومة المركزية الإقليم يمارس مواجهة فيروس كورونا الجديد وحده بعيداً عن التوجيهات والأوامر الصادرة مركزياً بشأن الإجراءات المطلوبة لمحاصرة التفشي.
في برشلونة، عاصمة كتالونيا، توقفت الحياة في المدينة التي لا تهدأ في العادة، ويبدو أنّ الوضع "خطير في برشلونة مع اتساع الوباء، ففي البداية لم يأخذ الناس الأمر بشكل جدي ولم يلزموا بيوتهم"، وفقاً لما يذكره طبيب فلسطيني- إسباني، مفضلاً عدم نشر اسمه. يذكر أنّ "الإرهاق واضح بين زملائي من الممرضين والأطباء، فتخيل الضغط الذي يعيشه الإنسان في مستشفيات ينقصها كثير من الأدوات الطبية، خصوصاً أجهزة التنفس الاصطناعية المخصصة للحالات الحرجة".
اقــرأ أيضاً
يتابع: "الآن، في الإمكان مشاهدة شارع لا رامبلا، وهو الشارع الرئيس الذي شهد حتى فترة قريبة عشرات الآلاف من المشاة فيه، مغلقاً تماماً ومهجوراً. الوضع المأساوي هو وضع المستشفيات، والخشية حقيقية من أن يصاب النظام الصحي بانهيار على الطريقة الإيطالية، والخوف هو أن تبدأ الوفيات بين الأطباء والممرضين، ففي الأصل ثمة نقص حاد في الكوادر الطبية، في مختلف الاختصاصات في المستشفيات في كتالونيا ومدريد وبقية الأقاليم".
هذا الواقع المأساوي الذي تعيشه إسبانيا، خصوصاً أنّ الإجراءات كانت بطيئة في بداية انتشار الوباء، وحّد الإسبان، حكومة ومعارضة، ودفع الحكومة المركزية إلى اتخاذ إجراءات تساعد المواطنين والعمال وأصحاب المتاجر، إذ رصدت ميزانية ضخمة، تعفي من خلالها منذ بداية الشهر المقبل الناس من إيجارات البيوت، وربما توقف دفع فواتير الكهرباء. "كلّ العمال المتأثرين سيتلقون تعويضاً حكومياً، وثمة توجه لوقف سداد القروض للمصارف، أو على الأقل تأجيلها، بضمانات الحكومة"، بحسب الطبيب الفلسطيني- الإسباني.
يضيف، كما منذر شهابي وغيره، أنّ "الناس يحاولون رفع معنويات بعضهم من خلال التضامن الاجتماعي والغناء المسائي من الشرفات، ويومياً يجري التصفيق للطواقم الطبية التي ينتشر بعضها لتوزيع الكمامات، والمعقمات على بعض الأشخاص، بعدما فُقدت من الأسواق". ويذكر الطبيب أنّ "المتوفين بالفيروس في أغلبهم يجري حرقهم بدلاً من دفنهم، مع وجود حالة طارئة. وفي الأصل، فإنّ ثقافة حرق الجثة موجودة في البلاد لدواع اقتصادية فهي تبقى الأقل تكلفة، فما بالك بوجود حظر تجول ولا تقام الجنازات كما في السابق؟".
عموماً، يبقى وضع إسبانيا "المرعب" على لسان متخصصين طبيين، تذكيراً بكارثة تاريخية مرت بها البشرية حين انتشر مرض "الإنفلونزا الإسبانية" حاصداً أرواح عشرات الملايين حول العالم، بين عامي 1918 و1920. وهو الوضع الذي سيدفع حكومة مدريد إلى مزيد من الإجراءات الصارمة حول الحجر المنزلي وحظر التجول في عموم البلاد، بالترافق مع غياب الاتحاد الأوروبي، وغياب استراتيجية العمل الجماعي، لمواجهة الوباء.
"في البداية كنا نستمع إلى الأخبار عن فيروس كورونا الجديد المنتشر في إيطاليا، ولم نهتم كثيراً، إلى أن أصاب زوجة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز، بوغنونا غوميز، فاستيقظ الناس على كابوس حقيقي يمكن أن يصيب أيّا منا"، بحسب ما يذكره فرناندو دياز إدواردو، من مدينة روندا في إقليم الأندلس الإسباني، لـ"العربي الجديد".
غير بعيد عن الواقع الإيطالي المأساوي في انتشار العدوى وتزايد أعداد من ماتوا بالمرض، ذهبت الحكومة المركزية الإسبانية في مدريد، بزعامة رئيس الوزراء الاشتراكي، سانشيز، نحو إجراءات لم يعتدها البلد السياحي الأول في أوروبا: "لا تغادروا بيوتكم إلّا للضرورة القصوى". ذكّر الرجل شعبه بخطورة ما يواجه مجتمعه.
في بداية الإرشادات والتوجيهات للمواطنين، بدا البعض غير مكترث بما طلب منه، خصوصاً في المناطق التي تشهد عادة تجمعات بشرية، فالإسبان "شأنهم شأن بقية شعوب المتوسط اجتماعيون ومخالطون أكثر بكثير من الشمال الأوروبي"، بحسب فرناندو، المضطر الآن لترك عمله في منشأة سياحية في روندا متخصصة بمصارعة الثيران، ويقضي معظم وقته مع والديه في الشقة: "فأنت لا ترغب بالمخاطرة بنقل العدوى لهما أو بتغريمك بمبلغ مالي في ظل أزمة مالية متفاقمة". أوامر الحكومة المركزية "الصارمة" بحسب فرناندو، لا تشمل أقاليم بعينها، بل كلّ التراب الإسباني منذ الخامس عشر من مارس/ آذار الجاري.
وبذلك، لا يسمح للمواطنين بالخروج من بيوتهم إلّا إذا كان الأمر متعلقاً بأمور ضرورية جداً ومثبتة "فيمكن لرجال الشرطة، بالرغم من أنّهم لطيفون، أن يطلبوا منك إثبات أنّ وجهتك هي نحو طبيب أو مستشفى، بل حتى وأنت عائد من العمل، إن كان عملك لم يتوقف، يطلبون إثباتاً أنّك كنت في العمل أو تتجه إليه" بحسب ما يذكره من ملقا في الجنوب الإسباني، طالب ماجستير الرياضيات في جامعتها، منذر شهابي، لـ"العربي الجديد"، هو الذي وجد نفسه وسط المدينة معزولاً في بيته مع أطفاله، الذين توقفت مدارسهم. يقول شهابي إنّ المواطنين "لم يأخذوا منذ بداية الشهر الحالي تحذيرات الحكومة على محمل الجد، وللأسف خلال أسبوع كانت الإصابات بكورونا بالآلاف".
الحكومة الإسبانية من ناحيتها ذهبت قبل أيام إلى إعادة التأكيد على أنّه "يحظر الخروج من البيوت إلّا للضرورة القصوى" ليس أبعد من 500 متر عن المجمعات السكنية، وهو ما يؤكده قاطنون في أقاليم إسبانية مختلفة تحدثوا إلى "العربي الجديد". والضرورة القصوى تعني شراء الطعام والدواء أو مساعدة الأقارب، كالوالدين. ومن يخالف تلك التعليمات "ستشهر بوجهه غرامة مالية تقدر بين 300 و1000 يورو، والأمور ليس فيها مزاح، فإن عاند الشخص أو حاول الاعتداء على الشرطة سيزج به في السجن لستة أشهر على أقل تقدير"، وفقاً لما يذكره ماركو ألفاري من فيونخورولا، وهي مدينة سياحية في الأندلس. يذكر ألفاري لـ"العربي الجديد" أنّ "المدينة شبه ميتة، إذ أغلق كلّ شيء، فالكورنيش الذي كان حيوياً ويستقبل عشرات آلاف السائحين، من الداخل والخارج، بات مع منطقة ميخاس وماربيا مناطق أشباح، وهي ضربة قاصمة لأصحاب المطاعم والفنادق وغيرها من الأعمال المرتبطة بالسياحة".
وكان بيدرو سانشيز أعلن بشكل حازم جملة من الإجراءات الجديدة تطاول 46 مليون مواطن، مع إغلاق تام للبلاد وحدودها. وتشمل الإجراءات الحاسمة اللاجئين وطالبي اللجوء، والمهاجرين الذين رفضت طلبات لجوئهم، بسبب عدم التزام الإسبان منذ البداية بتوجيهات الحكومة "كونهم شعباً اجتماعياً، فهم يلتقون في الأحياء الشعبية ويتناولون الطعام معاً وتنتشر بينهم التحية بالقبلات"، كما يصف ألفاري.
القطاع الصحي الإسباني لا يختلف في الضغوط التي يواجهها عن إيطاليا، فآلاف المصابين في مدريد لم يجدوا أسرّة في مستشفياتها. يذكر طبيب، اختار أن نطلق عليه فقط اسم عمر، أنّ سلطات مدريد اضطرت إلى "إنشاء مستشفيات ميدانية، بات أولها جاهزاً أمس الأول الأحد، ويتسع لـ1300 مريض. ففي عموم إسبانيا، كغيرها من الدول، تخصص المستشفيات فقط 5 في المائة من طاقتها لما نطلق عليه العناية المركزة، ولهذا فهناك معاناة حقيقية في الحاجة إلى أجهزة تنفس اصطناعي". يضيف الدكتور عمر، أنّ "السلطات الإسبانية مضطرة لاستقبال معونات طبية من الصين، بعدما وجدت نفسها كإيطاليا من دون سياسة أوروبية مشتركة لمواجهة الوباء، علماً أنّ علاقة الصين بمدريد قوية، وهناك جالية صينية ضخمة في إسبانيا".
وبالفعل، ذكر التلفزيون الإسباني وصحيفة "إل باييس"، الأحد، أنّ "مقاطعة مدريد قامت خلال وقت قياسي (48 ساعة) بإنشاء المستشفى الميداني الضخم وفق معايير منظمة الصحة العالمية بمسافة بين أسرّة المرضى ومحاولة إنقاذ حياتهم، وسيخصص نحو 100 سرير للعناية المركزة".
وتخطط إسبانيا، بسبب كثافة الإصابات في أقاليمها، لإنشاء مزيد من المستشفيات وتوسيع الحالية، ليشمل كلّ واحد منها 3 آلاف سرير، وفي مرحلة لاحقة إلى 5 آلاف، تحضيراً لإدخال مزيد من المصابين. وأسست السلطات الصحية في مدريد مركزاً لوجستياً إقليمياً لاستيعاب جميع التبرعات المتعلقة بكورونا، ويقع هذا المركز في معهد التدريب الشامل على السلامة العامة والطوارئ. وخصصت السلطات أرقاماً ساخنة للتبرع.
وذهب مجلس مدينة مدريد إلى خطوات إضافية، السبت الماضي، بتبني قرار خصص من خلاله افتتاح قاعة في مؤسسة قاعات المؤتمرات في مدريد "افيما" لاحتضان 150 مشرداً لم تظهر عليهم أعراض فيروس كورونا الجديد، وذلك لمساعدتهم في الخروج من الشوارع. وبالفعل، احتشد هؤلاء منذ السبت في القاعة التي خصصت لهم، وهي مزودة بكلّ ما يحتاجونه، بدلاً من حياة التشرد، في وقت شددت الحكومة من قراراتها بعدم التجول.
وعما إذا كان المهاجرون السريون، ومن رُفضت طلبات لجوئهم وتوقف الدعم عنهم، تشملهم الإجراءات الصحية الإسبانية، يفيد الدكتور عمر بأنّ "ما يميز النظام الصحي الإسباني أنّه يسمح حتى للزائرين بالدخول الطارئ إلى مستشفياته وعياداته، والآن وبعد انتشار الوباء جرى تعميم تغطية التأمين الصحي لهؤلاء الذين تُطلَق عليهم تسمية "مهاجرين غير شرعيين"، والمقيمين الذين لا تعرف السلطات بوجودهم". ويؤكد هذا الكلام ماركو ألفاري ومنذر شهابي والمهندسة الدنماركية المقيمة منذ 15 عاماً في الأندلس، لوتا كريستيانسن. يذكر شهابي بعض التفاصيل: "التأمين الصحي يشمل الجميع، بمن فيهم هؤلاء الذين ينتظرون حسم لجوئهم وإقاماتهم في البلاد، وهؤلاء الذين كانت رفضت طلباتهم ولم يغادروا بعد البلاد. ويُجدد تأمينهم الصحي لمدة شهر، والآن مع الحالة الطارئة أصبح الأمر معمماً أنّ التأمين يشملهم من دون سقف زمني طالما بقيت حالة الطوارئ بسبب الفيروس".
وتنتهج إسبانيا، كغيرها من الدول الأوروبية التي أغلقت مؤسسات القطاع العام، بما فيها المدارس ورياض الأطفال، تعليم الصغار عن بعد. وقبيل صرف التلاميذ جرى تزويدهم بواجبات منزلية لمدة أسبوعين ويمكن للأهل التواصل عبر البريد الإلكتروني مع المعلمين.
ولا يسمح للمتصلين بالطوارئ ممن يشكون أنّهم مصابون بكورونا بالذهاب إلى المستشفيات بأنفسهم، فالسلطات الطبية خصصت فرقاً خاصة للتعامل مع الحالات بإرسال سيارة مجهزة إلى بيوت هؤلاء ويجري فحص كلّ أفراد الأسرة، وإن وجدت حاجة لنقل الشخص إلى المستشفى تنقله "أو يجري عزله صحياً في البيت مع متابعة طبية، وهو ما جرى في المجمع السكني الذي نقطنه"، بحسب شهابي الذي يصف مدينته ملقا بأنّها "مدينة أشباح، وأغلقت أبواب 130 فندقاً فيها، ولا يتحرك فيها إلّا المضطرون، وينتشر في الشوارع رجال الشرطة والدفاع المدني والجيش".
من الواضح أنّ الحكومة الاشتراكية المركزية في مدريد لا تأبه كثيراً لدعوات إقليم كتالونيا، المطالب بالانفصال عن إسبانيا، إلى أن تترك الحكومة المركزية الإقليم يمارس مواجهة فيروس كورونا الجديد وحده بعيداً عن التوجيهات والأوامر الصادرة مركزياً بشأن الإجراءات المطلوبة لمحاصرة التفشي.
في برشلونة، عاصمة كتالونيا، توقفت الحياة في المدينة التي لا تهدأ في العادة، ويبدو أنّ الوضع "خطير في برشلونة مع اتساع الوباء، ففي البداية لم يأخذ الناس الأمر بشكل جدي ولم يلزموا بيوتهم"، وفقاً لما يذكره طبيب فلسطيني- إسباني، مفضلاً عدم نشر اسمه. يذكر أنّ "الإرهاق واضح بين زملائي من الممرضين والأطباء، فتخيل الضغط الذي يعيشه الإنسان في مستشفيات ينقصها كثير من الأدوات الطبية، خصوصاً أجهزة التنفس الاصطناعية المخصصة للحالات الحرجة".
يتابع: "الآن، في الإمكان مشاهدة شارع لا رامبلا، وهو الشارع الرئيس الذي شهد حتى فترة قريبة عشرات الآلاف من المشاة فيه، مغلقاً تماماً ومهجوراً. الوضع المأساوي هو وضع المستشفيات، والخشية حقيقية من أن يصاب النظام الصحي بانهيار على الطريقة الإيطالية، والخوف هو أن تبدأ الوفيات بين الأطباء والممرضين، ففي الأصل ثمة نقص حاد في الكوادر الطبية، في مختلف الاختصاصات في المستشفيات في كتالونيا ومدريد وبقية الأقاليم".
هذا الواقع المأساوي الذي تعيشه إسبانيا، خصوصاً أنّ الإجراءات كانت بطيئة في بداية انتشار الوباء، وحّد الإسبان، حكومة ومعارضة، ودفع الحكومة المركزية إلى اتخاذ إجراءات تساعد المواطنين والعمال وأصحاب المتاجر، إذ رصدت ميزانية ضخمة، تعفي من خلالها منذ بداية الشهر المقبل الناس من إيجارات البيوت، وربما توقف دفع فواتير الكهرباء. "كلّ العمال المتأثرين سيتلقون تعويضاً حكومياً، وثمة توجه لوقف سداد القروض للمصارف، أو على الأقل تأجيلها، بضمانات الحكومة"، بحسب الطبيب الفلسطيني- الإسباني.
يضيف، كما منذر شهابي وغيره، أنّ "الناس يحاولون رفع معنويات بعضهم من خلال التضامن الاجتماعي والغناء المسائي من الشرفات، ويومياً يجري التصفيق للطواقم الطبية التي ينتشر بعضها لتوزيع الكمامات، والمعقمات على بعض الأشخاص، بعدما فُقدت من الأسواق". ويذكر الطبيب أنّ "المتوفين بالفيروس في أغلبهم يجري حرقهم بدلاً من دفنهم، مع وجود حالة طارئة. وفي الأصل، فإنّ ثقافة حرق الجثة موجودة في البلاد لدواع اقتصادية فهي تبقى الأقل تكلفة، فما بالك بوجود حظر تجول ولا تقام الجنازات كما في السابق؟".
عموماً، يبقى وضع إسبانيا "المرعب" على لسان متخصصين طبيين، تذكيراً بكارثة تاريخية مرت بها البشرية حين انتشر مرض "الإنفلونزا الإسبانية" حاصداً أرواح عشرات الملايين حول العالم، بين عامي 1918 و1920. وهو الوضع الذي سيدفع حكومة مدريد إلى مزيد من الإجراءات الصارمة حول الحجر المنزلي وحظر التجول في عموم البلاد، بالترافق مع غياب الاتحاد الأوروبي، وغياب استراتيجية العمل الجماعي، لمواجهة الوباء.