لطالما شعر الفلسطينيون في سورية بأنّهم جزء من النسيج الاجتماعي والدورة الاقتصادية ولو مع حرية محدودة شأنهم شأن المواطنين السوريين، لكنّ كلّ شيء انتهى مع الرصاصات الأولى للثورة السورية. التجمع الأكبر لهم كان مخيم اليرموك، جنوب العاصمة دمشق، الذي تلقى الكثير من الدمار، فكانت النهاية مع الخروج الكبير منه إلى وجهات مختلفة في صورة نقلتها الوكالات العالمية ونقلت معها كثير من المعاناة والألم. لم يقتصر الأمر على اليرموك بل امتد إلى عدة مخيمات جعلت الفلسطيني لاجئاً للمرة الثانية. في ما يأتي الجلقة الخامسة من محور "فلسطيني الشتات"...
تبعاً لإحصاءات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى - الأونروا، كان عدد اللاجئين الفلسطينيين في سورية قبل الأحداث التي اندلعت في العام 2011 أكثر من 560 ألفاً، أي ما نسبته 2 في المائة من سكان سورية في حينه، يقيم معظمهم في العاصمة دمشق، ويخضعون في حياتهم اليومية ومعاملاتهم للقانون رقم 260 الصادر بتوقيع من رئيس الجمهورية في 10/7/1956. وهو نص ينظم الوجود الفلسطيني ويحدد حقوقهم وواجباتهم، وبموجبه حصل هؤلاء على معظم الحقوق من جميع النواحي القانونية والاجتماعية والاقتصادية كما المواطنين السوريين تماماً، بما فيه حق العمل في القطاع العام والخاص والضمانات الاجتماعية كافة. الاستثناء الوحيد كان حرمانهم من الحقوق السياسية التي تتمثل بالترشح والتصويت في الانتخابات العامة.
عقاب
خلال هذه الأحداث المتلاحقة منذ نحو سبعة أعوام، تعرضت معظم المخيمات وعددها الرسمي تسعة، إلى دمار كلي أو جزئي على نحو متفاوت، وبعضها ما زال إلى الآن يخضع للحصار بأشكاله المتنوعة، من الحصار التمويني والمائي والخدماتي إلى الحصار الأمني وغيره. ولعلّ الجميع يذكر الحصار القاتل الذي فرضه النظام على مخيم اليرموك في قلب دمشق، وما قاد إليه من مجاعة وعطش بلغا حد الموت جوعاً وظمأً لأعداد من اللاجئين كباراً وصغاراً. ولما كان عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين خارج المخيمات ويقيمون في ضواحي العاصمة دمشق، لا سيما في الضواحي بمنطقتي الغوطة الشرقية والغربية، فقد الألوف منهم حياتهم خلال أعمال القصف والتدمير، كما خسروا ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة أيضاً. كذلك منع النظام عودة سكان مخيمات سبنيه والحسينية وحندرات من العودة إليها بعد خروجهم منها إثر المعارك التي طاولتها ودفعت سكانها إلى خارجها. وعليه، لم تسفر جهود المصالحة عن التوصل إلى اتفاقات بشأن مخيم اليرموك المحاصر منذ العام 2013 وسواه من مخيمات قرّ الرأي من جانب النظام أنّها لا تدخل بمن فيها من لاجئين في خانة دولة "سورية المفيدة".
اقــرأ أيضاً
لكنّ ما يجدر ذكره أنّ الانتهاكات لحياة وأوضاع اللاجئين لم تقتصر على النظام وحده، بل إنّ كلّ الأطراف المتحاربة ساهمت بها إلى هذا الحد أو ذاك، ما جعل الوجود الفلسطيني اللاجئ في سورية مجرد أشلاء مبعثرة من الصعب، إن لم نقل من المتعذر، إعادة جمعها وتشكيل نسيجها الاجتماعي ثانية. ما يعني أنّه وجود يتهدده الزوال.
الواقع أنّه منذ بدأت الأحداث في سورية تتخذ منحاها العنفي برز أكثر من توجه للتعاطي معها من جانب الفصائل والتنظيمات الفلسطينية على تلك الساحة. فقد ظهرت محاولات من جانب بعض القوى لتحييد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين عن الصراع الداخلي، وقد مثلت مثل هذا التوجه كلّ من منظمة التحرير والقوى المنضوية في إطارها وحماس. مقابل هذا المسعى كان هناك طرف يعمل وبدأب على إلحاقهم بطرف السلطة في الصراع والمساهمة في القتال معه، ومثلته خير تمثيل هنا الجبهة الشعبية - القيادة العامة ومنظمة الصاعقة، بينما كان هناك طرف ثالث يجهد في إلحاقهم بخندق المعارضة كموقف من نظام لم يقدم لفلسطين والفلسطينيين ما يذكر بالخير، وكانت بعض التنظيمات والمجموعات الإسلامية هي صاحبة هذا الموقف.
اقــرأ أيضاً
تهجير
في أيّ حال، كان تطور مسار الأحداث وشمول العنف معظم المناطق السورية، قد قاد إلى الكارثة التي طاولت الوجود والمخيمات الفلسطينية في سورية. وهنا تتضارب الأرقام حول أعداد اللاجئين ومصائرهم. وتتباين التقديرات في هذا الخصوص إلى حدود التناقض. فبعض التقديرات تشير إلى نحو 280 ألفاً من أصل العدد الأساسي وهو 560 ألفاً نزحوا عن مخيماتهم داخل البلاد. أي أن نصف اللاجئين هؤلاء لم يخرجوا من سورية واكتفوا بالانتقال إلى مناطق ظنوا أنّها آمنة في الداخل السوري.
أما بشأن اللاجئين إلى الخارج، فالأرقام هنا تصعد وتهبط تبعاً للجهات التي تصدر عنها. فالحدّ الأدنى يتحدث عن 70 أو 80 ألفاً شردوا إلى الدول المجاورة، والمقصود هنا لبنان والأردن وتركيا. هذا التقدير يعود إلى المرحلة التي سبقت "الخروج العظيم" إلى أوروبا. بعدها هناك من يتحدث عن لجوء عدد يقدر بـ200 ألف لاجئ حتى أواخر العام 2017، ما يعني أنّ نحو 40 في المائة من اللاجئين باتوا مشتتين بعيدين عن مطارح لجوئهم الأول. حصة اللاجئين إلى أوروبا من هذا العدد الإجمالي تراوح بين نحو 70 ألفاً و85 ألفاً، لكنّ أوساطاً دبلوماسية غربية في بيروت تتحدث عن رقم يصل إلى 300 ألف فلسطيني غادروا سورية موزعين على الشتات الجديد، منهم 110 آلاف قصدوا لبنان، والباقون توزعوا في بلدان أخرى عبر المرافئ الشرعية وغير الشرعية، بالإضافة إلى عدد لا يستهان به دخل إلى لبنان خلسة بواسطة شبكات التهريب الحدودية أو عصابات "الاتجار بالبشر" من المهجرين.
وفي الإطار نفسه، نلفت إلى تقرير صدر في أغسطس/ آب 2017 عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين - الأونروا في سورية أشار إلى نزوح 254 ألفاً من بيوتهم ومخيماتهم، منهم 12500 احتموا داخل 37 ملجأ جماعياً مؤقتاً بإدارة الأونروا ودعمها يتوزعون على معظم المحافظات السورية، و120 ألفاً لجأوا إلى الخارج، منهم 31 ألفاً فروا إلى لبنان، و17 ألفاً إلى الأردن، والباقون موزعون في غيرهما. والملفت في تقرير الأونروا المذكور أنّه يتحدث عن 418 ألفاً من اللاجئين في سورية باتوا يعتمدون بشكل كلي على المعونات التي توزعها الوكالة بعدما فقدوا مقومات عيشهم، علماً أنّ كلّ ما سبق هي أرقام تقديرية وتقريبية وقابلة للزيادة والنقصان.
اقــرأ أيضاً
استقرار
من المعروف أنّ اللاجئين الفلسطينيين إلى سورية منذ العام 1948 شعروا بنوع من الاستقرار جرّاء عدم التمييز الذي عاشوه رغم القبضة الأمنية والاستخباراتية عليهم وعلى غيرهم من مواطنين سوريين. وهكذا تصرفوا على أساس أنّ لجوءهم هذا هو اللجوء الأخير، خلاف ما عرفه لاجئو ليبيا والكويت واللاجئون إلى لبنان الذين عانوا حرباً مدمرة وغزوات إسرائيلية قاسية طوال أكثر من 15 عاماً متواصلة. وقد بلغ من شعورهم بالأمن أنّهم رأوا أنّ إقامتهم هذه مهما طالت ستقودهم إن عاجلاً أو آجلاً إلى فلسطين في رحلة العودة، وأنّهم تبعاً لذلك لن يذوقوا ثانية طعم التهجير. وقد عبّر اللاجئون عن استقرارهم بأشكال شتى ككلّ اجتماع بشري، وعليه فقد باتوا جزءاً من البيئة الاجتماعية التي أقاموا بين ظهرانيها، وتملّكوا متاجر ومؤسسات صناعية وعملوا في القطاع الخاص ولدى الدولة في مختلف المرافق والمؤسسات والقطاعات، وحصلوا على أجورهم وتعويضاتهم منها مثلهم مثل المواطنين السوريين، باعتبار أنّ الفارق الوحيد الذي لم يتمتعوا به كان حق الترشح والانتخاب باعتباره يعبر عن تخليهم عن هويتهم الأصلية الفلسطينية، وهو ما ليس مطروحاً منهم أو مفروضاً عليهم. إذاً، مقابل الأمن والشعور بالاستقرار، وافقوا على خسارة جوانب من حرياتهم السياسية والعامة، مقابل هذا المكتسب الذي عنى لهم الكثير في وضع إقليمي رجراج يصيب أكثر ما يصيب الفئات الضعيفة والمهمشة وهم في مقدمتها.
على هذا الأساس، بنى الفلسطينيون حياتهم في سورية مطمئنين إلى رسوخ أوضاعهم فيها. وهو ما انتهى منذ انطلقت تظاهرة أطفال درعا عام 2011 مروراً بكلّ المحطات العسكرية التي شهدتها البلاد والتي لم تترك محافظة أو ناحية إلا طاولتها. ومن البديهي أن يكون الفلسطينيون الذين لم ينضووا في دعم النظام ككتلة بشرية، وإن كانت هناك مجموعات منهم قد فعلت، محل انتقام. لم يكن العامل السياسي هو الوحيد الذي مارسه النظام عقاباً لهم على رفضهم الانخراط في تشكيلات قواه المليشياوية، إذ دخل العامل الطائفي إلى الميدان باعتباره مقرراً في المواقف من طائفة الأكثرية السنية، وعليه حوسب الفلسطينيون كأحد مكوناتها.
وبالفعل، كان القسم الأكبر مما تعرضوا له من قمع مدخله من هذا الباب. أيضاً، كان هناك عامل موازٍ في ما آلت إليه أوضاعهم وهو المتمثل في تحميلهم مسؤولية اندلاع الأحداث أو عدم القدرة على حسمها، إذ راجت كثير من الأخبار عن مشاركة فلسطينية وازنة في هذه المعركة أو تلك، ما منع القوات النظامية والملحقة بها من حسمها.
تعفيش
هذا جانب، على أنّ هناك جانباً يجب أن يحسب له حساب في الحروب الأهلية والمتمثل بالعامل الاقتصادي، فالمعروف أنّه وعلى الرغم من أنّ النسبة العظمى من الفلسطينيين وصلت إلى سورية بعدما فقدت ممتلكاتها في فلسطين، فإنّ قسماً منهم حمل معه مدخراته، وقد تطور وضعهم ككتلة سكانية في غضون السبعين عاماً الماضية، إذ تمكنوا خلالها من حجز مواقع لهم في اقتصاد البلاد، خصوصاً أنّ قسماً لا يستهان به من متعلميهم ومهنييهم قد غادر إلى دول الخليج والسعودية في ظل الفورة النفطية، واستطاع العودة بثروة لا بأس بها تمكن معها من بناء مؤسسات خاصة وتنفيذ مشروعات مربحة، وتدبير حياة متوسطة أو جيدة المستوى.
اقــرأ أيضاً
وعليه، فإنّ ما تعرض له الفلسطينيون من مدخل الاقتصاد عاناه سواهم من مواطنين فقدوا ممتلكاتهم. وتفيد معلومات واردة من المدن السورية بأنّ عدداً لا يستهان به من كبار المسؤولين الميدانيين كانوا يعمدون بعد السيطرة على الشوارع التجارية والأحياء في المدن إلى بيع المحلات والمنازل بما فيها من بضائع وأثاث لـ"المعفشين"، بأسعار بخسة، طالما أنّهم لم يدفعوا قرشاً ثمن موجوداتها، ولا رادع يمنعهم من القيام بذلك من أخلاق أو قانون. وكانت حصيلة مثل هذا السلوك أنّ ثروات استغرق جمعها عشرات السنين ذهبت في غمضة عين طمعاً بالمال والربح السريع الذي مارسه هؤلاء النافذون والعصابات. وتفيد بعض المعلومات المتداولة بأنّ حرائق عديدة حدثت وفي أكثر من مدينة وبلدة كان وراءها الطمع بشراء الأملاك المحروقة بأسعار رمزية بعد إرغام أصحابها على بيعها طالما أن ليس بإمكانهم الإفادة منها أو حمايتها من السرقة والتدمير، وضمنها أملاك للفلسطينيين. ولا ننسى ما حدث في حمص مع انتقال الأحداث إليها عندما طاولت النيران مكاتب الدوائر العقارية فأحرقت سجلات وقيود الملكية فيها. ما يعني فقدان الأصول الثبوتية للملكيات، وهو ما يسهّل التلاعب بها في مراحل لاحقة عبر إعادة تكوين السجلات مجدداً. ولما كان اللاجئون الفلسطينيون من الملاكين في سورية فقد نالهم الكثير مما شهدته المدن والأرياف على الصعيد العقاري والتجاري على حد سواء.
ولعلّ أكثر الأمثلة سطوعاً على مصير اللاجئين الفلسطينيين في سورية الأعداد التي قصدت لبنان والتي وصلت في مرحلة ما إلى نحو 110 آلاف نسمة ثم عادت إلى الانخفاض إلى31 ألفاً، إذ إنّ معظم هؤلاء وجدوا طريقهم نحو الشتات ولم يعودوا إلى مطحنة الموت السورية خلاف ما يعتقده البعض.
(باحث وأستاذ جامعي)
عقاب
خلال هذه الأحداث المتلاحقة منذ نحو سبعة أعوام، تعرضت معظم المخيمات وعددها الرسمي تسعة، إلى دمار كلي أو جزئي على نحو متفاوت، وبعضها ما زال إلى الآن يخضع للحصار بأشكاله المتنوعة، من الحصار التمويني والمائي والخدماتي إلى الحصار الأمني وغيره. ولعلّ الجميع يذكر الحصار القاتل الذي فرضه النظام على مخيم اليرموك في قلب دمشق، وما قاد إليه من مجاعة وعطش بلغا حد الموت جوعاً وظمأً لأعداد من اللاجئين كباراً وصغاراً. ولما كان عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين خارج المخيمات ويقيمون في ضواحي العاصمة دمشق، لا سيما في الضواحي بمنطقتي الغوطة الشرقية والغربية، فقد الألوف منهم حياتهم خلال أعمال القصف والتدمير، كما خسروا ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة أيضاً. كذلك منع النظام عودة سكان مخيمات سبنيه والحسينية وحندرات من العودة إليها بعد خروجهم منها إثر المعارك التي طاولتها ودفعت سكانها إلى خارجها. وعليه، لم تسفر جهود المصالحة عن التوصل إلى اتفاقات بشأن مخيم اليرموك المحاصر منذ العام 2013 وسواه من مخيمات قرّ الرأي من جانب النظام أنّها لا تدخل بمن فيها من لاجئين في خانة دولة "سورية المفيدة".
لكنّ ما يجدر ذكره أنّ الانتهاكات لحياة وأوضاع اللاجئين لم تقتصر على النظام وحده، بل إنّ كلّ الأطراف المتحاربة ساهمت بها إلى هذا الحد أو ذاك، ما جعل الوجود الفلسطيني اللاجئ في سورية مجرد أشلاء مبعثرة من الصعب، إن لم نقل من المتعذر، إعادة جمعها وتشكيل نسيجها الاجتماعي ثانية. ما يعني أنّه وجود يتهدده الزوال.
الواقع أنّه منذ بدأت الأحداث في سورية تتخذ منحاها العنفي برز أكثر من توجه للتعاطي معها من جانب الفصائل والتنظيمات الفلسطينية على تلك الساحة. فقد ظهرت محاولات من جانب بعض القوى لتحييد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين عن الصراع الداخلي، وقد مثلت مثل هذا التوجه كلّ من منظمة التحرير والقوى المنضوية في إطارها وحماس. مقابل هذا المسعى كان هناك طرف يعمل وبدأب على إلحاقهم بطرف السلطة في الصراع والمساهمة في القتال معه، ومثلته خير تمثيل هنا الجبهة الشعبية - القيادة العامة ومنظمة الصاعقة، بينما كان هناك طرف ثالث يجهد في إلحاقهم بخندق المعارضة كموقف من نظام لم يقدم لفلسطين والفلسطينيين ما يذكر بالخير، وكانت بعض التنظيمات والمجموعات الإسلامية هي صاحبة هذا الموقف.
تهجير
في أيّ حال، كان تطور مسار الأحداث وشمول العنف معظم المناطق السورية، قد قاد إلى الكارثة التي طاولت الوجود والمخيمات الفلسطينية في سورية. وهنا تتضارب الأرقام حول أعداد اللاجئين ومصائرهم. وتتباين التقديرات في هذا الخصوص إلى حدود التناقض. فبعض التقديرات تشير إلى نحو 280 ألفاً من أصل العدد الأساسي وهو 560 ألفاً نزحوا عن مخيماتهم داخل البلاد. أي أن نصف اللاجئين هؤلاء لم يخرجوا من سورية واكتفوا بالانتقال إلى مناطق ظنوا أنّها آمنة في الداخل السوري.
أما بشأن اللاجئين إلى الخارج، فالأرقام هنا تصعد وتهبط تبعاً للجهات التي تصدر عنها. فالحدّ الأدنى يتحدث عن 70 أو 80 ألفاً شردوا إلى الدول المجاورة، والمقصود هنا لبنان والأردن وتركيا. هذا التقدير يعود إلى المرحلة التي سبقت "الخروج العظيم" إلى أوروبا. بعدها هناك من يتحدث عن لجوء عدد يقدر بـ200 ألف لاجئ حتى أواخر العام 2017، ما يعني أنّ نحو 40 في المائة من اللاجئين باتوا مشتتين بعيدين عن مطارح لجوئهم الأول. حصة اللاجئين إلى أوروبا من هذا العدد الإجمالي تراوح بين نحو 70 ألفاً و85 ألفاً، لكنّ أوساطاً دبلوماسية غربية في بيروت تتحدث عن رقم يصل إلى 300 ألف فلسطيني غادروا سورية موزعين على الشتات الجديد، منهم 110 آلاف قصدوا لبنان، والباقون توزعوا في بلدان أخرى عبر المرافئ الشرعية وغير الشرعية، بالإضافة إلى عدد لا يستهان به دخل إلى لبنان خلسة بواسطة شبكات التهريب الحدودية أو عصابات "الاتجار بالبشر" من المهجرين.
وفي الإطار نفسه، نلفت إلى تقرير صدر في أغسطس/ آب 2017 عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين - الأونروا في سورية أشار إلى نزوح 254 ألفاً من بيوتهم ومخيماتهم، منهم 12500 احتموا داخل 37 ملجأ جماعياً مؤقتاً بإدارة الأونروا ودعمها يتوزعون على معظم المحافظات السورية، و120 ألفاً لجأوا إلى الخارج، منهم 31 ألفاً فروا إلى لبنان، و17 ألفاً إلى الأردن، والباقون موزعون في غيرهما. والملفت في تقرير الأونروا المذكور أنّه يتحدث عن 418 ألفاً من اللاجئين في سورية باتوا يعتمدون بشكل كلي على المعونات التي توزعها الوكالة بعدما فقدوا مقومات عيشهم، علماً أنّ كلّ ما سبق هي أرقام تقديرية وتقريبية وقابلة للزيادة والنقصان.
استقرار
من المعروف أنّ اللاجئين الفلسطينيين إلى سورية منذ العام 1948 شعروا بنوع من الاستقرار جرّاء عدم التمييز الذي عاشوه رغم القبضة الأمنية والاستخباراتية عليهم وعلى غيرهم من مواطنين سوريين. وهكذا تصرفوا على أساس أنّ لجوءهم هذا هو اللجوء الأخير، خلاف ما عرفه لاجئو ليبيا والكويت واللاجئون إلى لبنان الذين عانوا حرباً مدمرة وغزوات إسرائيلية قاسية طوال أكثر من 15 عاماً متواصلة. وقد بلغ من شعورهم بالأمن أنّهم رأوا أنّ إقامتهم هذه مهما طالت ستقودهم إن عاجلاً أو آجلاً إلى فلسطين في رحلة العودة، وأنّهم تبعاً لذلك لن يذوقوا ثانية طعم التهجير. وقد عبّر اللاجئون عن استقرارهم بأشكال شتى ككلّ اجتماع بشري، وعليه فقد باتوا جزءاً من البيئة الاجتماعية التي أقاموا بين ظهرانيها، وتملّكوا متاجر ومؤسسات صناعية وعملوا في القطاع الخاص ولدى الدولة في مختلف المرافق والمؤسسات والقطاعات، وحصلوا على أجورهم وتعويضاتهم منها مثلهم مثل المواطنين السوريين، باعتبار أنّ الفارق الوحيد الذي لم يتمتعوا به كان حق الترشح والانتخاب باعتباره يعبر عن تخليهم عن هويتهم الأصلية الفلسطينية، وهو ما ليس مطروحاً منهم أو مفروضاً عليهم. إذاً، مقابل الأمن والشعور بالاستقرار، وافقوا على خسارة جوانب من حرياتهم السياسية والعامة، مقابل هذا المكتسب الذي عنى لهم الكثير في وضع إقليمي رجراج يصيب أكثر ما يصيب الفئات الضعيفة والمهمشة وهم في مقدمتها.
على هذا الأساس، بنى الفلسطينيون حياتهم في سورية مطمئنين إلى رسوخ أوضاعهم فيها. وهو ما انتهى منذ انطلقت تظاهرة أطفال درعا عام 2011 مروراً بكلّ المحطات العسكرية التي شهدتها البلاد والتي لم تترك محافظة أو ناحية إلا طاولتها. ومن البديهي أن يكون الفلسطينيون الذين لم ينضووا في دعم النظام ككتلة بشرية، وإن كانت هناك مجموعات منهم قد فعلت، محل انتقام. لم يكن العامل السياسي هو الوحيد الذي مارسه النظام عقاباً لهم على رفضهم الانخراط في تشكيلات قواه المليشياوية، إذ دخل العامل الطائفي إلى الميدان باعتباره مقرراً في المواقف من طائفة الأكثرية السنية، وعليه حوسب الفلسطينيون كأحد مكوناتها.
وبالفعل، كان القسم الأكبر مما تعرضوا له من قمع مدخله من هذا الباب. أيضاً، كان هناك عامل موازٍ في ما آلت إليه أوضاعهم وهو المتمثل في تحميلهم مسؤولية اندلاع الأحداث أو عدم القدرة على حسمها، إذ راجت كثير من الأخبار عن مشاركة فلسطينية وازنة في هذه المعركة أو تلك، ما منع القوات النظامية والملحقة بها من حسمها.
تعفيش
هذا جانب، على أنّ هناك جانباً يجب أن يحسب له حساب في الحروب الأهلية والمتمثل بالعامل الاقتصادي، فالمعروف أنّه وعلى الرغم من أنّ النسبة العظمى من الفلسطينيين وصلت إلى سورية بعدما فقدت ممتلكاتها في فلسطين، فإنّ قسماً منهم حمل معه مدخراته، وقد تطور وضعهم ككتلة سكانية في غضون السبعين عاماً الماضية، إذ تمكنوا خلالها من حجز مواقع لهم في اقتصاد البلاد، خصوصاً أنّ قسماً لا يستهان به من متعلميهم ومهنييهم قد غادر إلى دول الخليج والسعودية في ظل الفورة النفطية، واستطاع العودة بثروة لا بأس بها تمكن معها من بناء مؤسسات خاصة وتنفيذ مشروعات مربحة، وتدبير حياة متوسطة أو جيدة المستوى.
وعليه، فإنّ ما تعرض له الفلسطينيون من مدخل الاقتصاد عاناه سواهم من مواطنين فقدوا ممتلكاتهم. وتفيد معلومات واردة من المدن السورية بأنّ عدداً لا يستهان به من كبار المسؤولين الميدانيين كانوا يعمدون بعد السيطرة على الشوارع التجارية والأحياء في المدن إلى بيع المحلات والمنازل بما فيها من بضائع وأثاث لـ"المعفشين"، بأسعار بخسة، طالما أنّهم لم يدفعوا قرشاً ثمن موجوداتها، ولا رادع يمنعهم من القيام بذلك من أخلاق أو قانون. وكانت حصيلة مثل هذا السلوك أنّ ثروات استغرق جمعها عشرات السنين ذهبت في غمضة عين طمعاً بالمال والربح السريع الذي مارسه هؤلاء النافذون والعصابات. وتفيد بعض المعلومات المتداولة بأنّ حرائق عديدة حدثت وفي أكثر من مدينة وبلدة كان وراءها الطمع بشراء الأملاك المحروقة بأسعار رمزية بعد إرغام أصحابها على بيعها طالما أن ليس بإمكانهم الإفادة منها أو حمايتها من السرقة والتدمير، وضمنها أملاك للفلسطينيين. ولا ننسى ما حدث في حمص مع انتقال الأحداث إليها عندما طاولت النيران مكاتب الدوائر العقارية فأحرقت سجلات وقيود الملكية فيها. ما يعني فقدان الأصول الثبوتية للملكيات، وهو ما يسهّل التلاعب بها في مراحل لاحقة عبر إعادة تكوين السجلات مجدداً. ولما كان اللاجئون الفلسطينيون من الملاكين في سورية فقد نالهم الكثير مما شهدته المدن والأرياف على الصعيد العقاري والتجاري على حد سواء.
ولعلّ أكثر الأمثلة سطوعاً على مصير اللاجئين الفلسطينيين في سورية الأعداد التي قصدت لبنان والتي وصلت في مرحلة ما إلى نحو 110 آلاف نسمة ثم عادت إلى الانخفاض إلى31 ألفاً، إذ إنّ معظم هؤلاء وجدوا طريقهم نحو الشتات ولم يعودوا إلى مطحنة الموت السورية خلاف ما يعتقده البعض.
(باحث وأستاذ جامعي)