لطالما تميّز الموريتانيّون بقيمهم البدويّة الأصيلة التي تدفعهم إلى نجدة المستغيث ومساعدة المحتاج ومعاقبة المعتدي والقبض على السارق والمجرم. لكن انتشار العنف وارتفاع معدلات الجريمة اليوم، يدفعان أكثر فأكثر في اتجاه تراجع الشهامة والمروءة في الشارع الموريتاني الذي أصبح يميل إلى الفرديّة والنفعيّة وعدم المبالاة بظروف الغير.
وتنتشر ظاهرة التربّص بالمارة وسرقتهم في وضح النهار، في حين تتعدّد أشكال الاعتداء من اقتحام لمحلات تجاريّة والسطو عليها أمام مرأى أصحابها، إلى اعتراض لسبيل المارة وسلبهم ما يملكون، بالإضافة إلى مداهمة الدور السكنيّة ومهاجمة النسوة ومحاولة اغتصابهن.
ويُعتبر سكان الأحياء العشوائيّة أكثر الذين يعانون. فتلك الأحياء تُعدّ ملاذاً للمنحرفين وقطاع الطرق، ومرتعاً لمجموعة من السلوكيات المشينة وللانحراف الأخلاقي. إلى ذلك، يستعيض سكان الأحياء الراقية في غياب النخوة، بالحراس وكاميرات المراقبة، في حين ما زالت الأحياء الشعبيّة تعتمد على ما تبقّى من أخلاق.
إنقاذ المستغيث
بعد انتشار الجريمة والعنف، أصبح الخروج إلى الشارع خطراً لا سيّما في المساء وفي الأحياء المشبوهة. وقد تأثر الناس بحوادث الاعتداء بالسلاح الأبيض وماء النار والضرب التي تعرّض لها أصحاب المروءة والشهامة، فأصبح المارة يتردّدون في التدّخل لإنهاء صراع بين شخصَين أو لنجدة مظلوم من اعتداء، ويرفضون تقديم المساعدة للقبض على سارق أو التبليغ عنه خوفاً من انتقامه.
عالي ولد بمبا محمود (30عاماً) بائع متجوّل. بالنسبة إليه، النخوة غائبة بسبب الظروف الاقتصاديّة وتراجع القيم الاجتماعيّة. يضيف: "أصبح الناس يخافون مما يحدث في الشارع ويرفضون التدخل في ما لا يعنيهم، بسبب ما تتناقله الألسن عن حوادث انتقام أو قتل خطأ بعد تدخل أحدهم في مشاجرة". ويروي أن "رجلاً تدخّل لإنهاء صراع بين شابَين في شارع عام، فكان جزاؤه طعنة في بطنه أردته قتيلاً".
ويشير إلى أن "معظم الأسر المحافظة فضلت الرحيل عن حي المقاطعة الخامسة في نواكشوط حيث يعمل، بعدما أصبح ملاذاً للمنحرفين وقطاع الطرق وراحت تنشط فيه عصابات الإتجار بالمخدرات... باختصار، تحوّل الحي إلى فضاء للجريمة، يخدش جمال العاصمة".
من جهته، يوافق إبراهيم ولد فال وهو حارس أحد عقارات الحيّ، كلام ولد بمبا محمود، مؤكداً أن انتشار الجرائم هو السبب الرئيسي لغياب النخوة. ويقول إن "الناس أصبحوا يخافون التدخل لإغاثة أحدهم، حتى لا يقعون فريسة بدلاً عنه أو يذهبون ضحيّة طعنة طائشة أو ضربة قوية في عراك ليس لهم فيه ناقة ولا جمل".
قيمٌ متغيّرة
يحذّر باحثون من خطورة ترك المجرمين والمشرّدين يسيطرون على الشارع ويرعبون الناس، ويطبّقون قانون الغاب ويعرّضون المارة لشتى أنواع الاستغلال والإهانة. ويربط هؤلاء ما بين عودة قيم الشجاعة والمروءة وبين تكاتف الناس وعودة الأمن إلى الشارع.
بالنسبة إلى الباحث الاجتماعي الحضرامي ولد هنون، فإن الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة المزرية تقف وراء تنامي معدّل الجريمة وغياب المروءة عن الشارع. ويقول إن "قيم المروءة والشجاعة كانت تعوّض دور الشرطة وتنصف المظلوم وتعاقب الظالم وتنجد المستغيث، وغيابها يضع الأجهزة الأمنيّة أمام تحد صعب يتطلب تعزيز الإجراءات الأمنيّة، وتشديد المراقبة وتكثيف دوريات الشرطة. وهو أمر صعب بل ومستحيل في أحياء شعبيّة وفي أزقة ضيقة تتكدّس فيها الأبنية العشوائيّة، بالكاد يستطيع المرء أن يجتازها راجلاً".
ويوضح ولد هنون أن "ضعف التدخّل الأمني في هذه الأحياء وارتفاع معدّل الجريمة، يرتبطان بالنموّ الديمغرافي وتوسّع المجالات السكنيّة". ويشير إلى أن "المنحرفين يمنعون الناس من نجدة بعضهم بعضاً، ويشكلون عصابات وينشرون الهلع والرعب بين الناس، ويقومون بعمليات اعتداء ونهب وسرقة وسلب وضرب وجرح وتزوير وفساد في الشوارع العامة".
لكنه يلفت إلى أن "الشبان يميلون في أغلب الأحيان إلى مساعدة المستغيثين والتصدّي للمشرّدين والمنحرفين الذي يتعرّضون للمارة. لكن كثرة الحوادث التي يذهب ضحيتها أصحاب المروءة والشهامة، دفعت بهؤلاء إلى الإقلاع عن مواجهة من يعترض سبيل المارة".
ويؤكد ولد هنون على أن "غياب هذه القيم يهدّد بنية المجتمع ويضعف التماسك الاجتماعي، ويساعد على تنامي العنف والإجرام وتطوّر أشكال الجريمة وأنواعها والأساليب المستخدمة في ممارستها".