ديما الواوي.. فلسطينية واجهت السجّان ببراءة طفولتها

الخليل

محمد عبيدات

avata
محمد عبيدات
04 مايو 2016
+ الخط -

قبل أيام، خرجت ديما الواوي إلى الحريّة، بعدما قضت أكثر من شهرَين في قبضة الاحتلال الإسرائيلي. تروي أصغر المعتقلات الفلسطينيات ما خبرته خلف القضبان لـ "العربي الجديد".

لم تتخيّل الطفلة الفلسطينية، ديما الواوي، أن ينتظرها رعب الاحتلال الإسرائيلي على قارعة الطريق، وهي تبحث عن والدتها. ظنّت أنها تعمل في أرض بلدتها حلحول، القريبة من مستوطنة كرمي تسور، وقصدتها. في تلك اللحظات، وجدت ديما الجميلة نفسها محاصرة من قبل حارس المستوطنة وجنود الاحتلال الذين صوّبوا أسلحتهم نحو طفولتها، وحاولوا قتلها وحرمانها من حياتها ومدرستها وأحلامها. براءة الطفولة والخوف الذي جمّد كلّ حركاتها كفلا بقاءها على قيد الحياة.

هذه حكايتي

"تجمّدت من الخوف. كنت مريضة ولم يكن أحد في البيت. فخرجت أبحث عن أمي". هكذا تبدأ ديما سردها لما خبرته منذ لحظة اعتقالها، وما عاشته خلف القضبان حتى لحظة خروجها من السجن.

في التاسع من فبراير/ شباط الماضي، اعتُقلت ديما الواوي البالغة من العمر اثنتَي عشرة سنة بالقرب من مدخل مستوطنة كرمي تسور المقامة على أراضي الفلسطينيين والواقعة ما بين حلحول وبيت أمر، شمال مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية المحتلة. جنود الاحتلال اشتبهوا في أنّها تحمل سكيناً. كالعادة، كانت التهمة جاهزة "محاولة طعن".

تقول لـ "العربي الجديد": "اعتقدتُ أنّ أمي في أرضنا. في كلّ أسبوع، نذهب إلى هناك. لحقتها، لكن من طريق الجبل. كنت خائفة من المستوطنين. فجأة، وجدت نفسي عند باب المستوطنة. صوّب الحارس سلاحه في وجهي وقد أراد أن يطخّني (يطلق النار عليّ). خفت كثيراً وتجمّدت في مكاني من الخوف. أما هو، فراح يصرخ واتصل بالجيش والاستخبارات". تضيف: "حضر ضابط فيما كان مستوطن يحمل كلبشات (قيوداً مصنوعة من البلاستيك). من شدة خوفي، استجبت لصرخات المستوطن وضابط الاستخبارات، اللذَين واصلا تصويب سلاحيهما نحو رأسي. جثوت على ركبتَيّ من الخوف، قبل أن يطلبا منّي الانبطاح على الأرض. من ثمّ، انقضّوا عليّ وكبّلوا يدَيّ".

خضعت الطفلة الخائفة إلى تحقيق ميداني وهي مكبّلة على الأرض. انهالت عليها أسئلة الحارس والمستوطن والجنود بالإضافة إلى ضباط الاستخبارات. سألوها عشرات المرّات عن اسمها وسبب مجيئها والمكان الذي قدمت منه، قبل أن ينتشروا بالمئات مع كلاب تفتيش لتمشيط الجبل الذي عبرته قبل أن تتوه.

الطفلة، التي لم تصحُ بعد من تجربة السجن، تأخذ بعض الوقت لتذكّر تفاصيل الحوار، الذي دار بينها وبين ضباط الاحتلال الذين أخبروها بأنهم كادوا يقتلونها. أما هي فأجابت ببراءة الطفولة: "عادي. كنت متّ شهيدة. كنت رحت إلى الجنّة". هي تعلّمت أنّ قتل الفلسطينيين من قبل جنود الاحتلال، يمنحهم الشهادة. كان جنود الاحتلال يحاولون إخافتها بالموت كي ينتزعوا منها اعترافاً ويسجنوها، إلا أنّها لم تكن تعي ما يحدث وقد أنقذتها عفوية إجابتها من مكر الاحتلال وضباط استخباراته.

عندما كبّلوا يدَيها خلف ظهرها وعصبوا عينَيها بقطعة قماش، أغاظت جنود الاحتلال بعدما تخلّصت من عصبتها مرّات عدّة، مستخدمة قدمَيها. وفي كلّ مرّة كان جنود الاحتلال يعصبون عينَيها من جديد.

تكمل سردها: "وصلت سيارة شرطة، نزلت منها مجندة تحمل كلبشات من الحديد. توسّلت إليها أن تقيّدني ويداي إلى الأمام. لم أشأ أن أتألّم أكثر. قلت لها: حبيبتك أنا. لكنها لم ترضَ. كبّلتني ويداي إلى الخلف، وأخذوني إلى التحقيق".




تحقيق قاسٍ

تناوب ضباط استخبارات الاحتلال طيلة ذلك اليوم على التحقيق مع ديما. بدلاً من أن تكون الطفلة في موقعها الطبيعي على مقاعد الدراسة وتجيب عن أسئلة مدرّساتها في الصف السابع، راحت تحاول بشتى الطرق إيجاد ردود على أسئلة المحققين الذين كانوا يريدون اعترافاً بأنها كانت هناك بغرض طعن مستوطنين.

تقول ديما: "أزعجتني صرخات المحقق عليّ، بعدما قلت له إنني لم أفهم سؤاله عمّا إذا كنت أنتمي إلى فتح أم حماس. صرخ أكثر، فرحت أعدّ للعشرة بين فتح وحماس. ولأنّ حماس أتت العاشرة، اخترتها. وسجّل المعلومة وانتهى الأمر".

تنقّلت ديما بين مكاتب ضباط الاستخبارات حتى ساعات الفجر الأولى. قال لها أحدهم: "سوف تحاكمين يا ديما. سوف يكون حكماً بالمؤبد، وتبقين في السجن مدى الحياة. لن تخرجي منه أبداً ولن تشاهدي عائلتك أبداً". بهذا التهديد حاول الضابط إخافة الطفلة. لكنّه لم يدرك أنّ هذه التجربة جعلتها تكبر. وردّت عليه: "عادي. كلها خمسون سنة". فوجئ بالجواب وقال: "أنتِ حرّة"، قبل أن يحضر محقّق ويوجّه إليها بعض التهم. "كان يقول لي إنني كنت عند المستوطنة لأقتل الناس. وكنت أردّ: حرام عليك. أنا كنت مريضة ولم أكن أريد قتل أحد".

وتسأل ديما "العربي الجديد": "صحيح أنه كان يريدني أن أعترف بأنني كنت أريد أن أقتل، كان يريدني أن أقول ذلك، حتى يوجّهون لي التهم؟".



طفولة خلف القضبان

حُكمت ديما بالسجن أربعة أشهر ونصف الشهر، أمضت منها شهرين ونصف الشهر فقط بعد ضغوطات كبيرة من قبل مؤسسات حقوقية دولية ومحلية. نُقلت إلى سجن "هشارون" حيث تُعتقل الأسيرات الفلسطينيات بأكثرهنّ. تعلقت الطفلة بهنّ، وعاشت حياة الأسر معهنّ، وخبرت مرارة الشوق إلى الأهل مثلهنّ. أصبحت واحدة منهنّ، وقد صُنّفت أصغر أسيرة فلسطينية خلف قضبان الاحتلال الإسرائيلي.

خففت عنها الأسيرات الفلسطينيات الفترة الأولى من سجنها. حاولن على الرغم من ظروف اعتقالهن القاسية، أن يجعلنها تضحك حتى تتأقلم بعض الشيء مع أجواء السجن والزنزانة. تقول الصغيرة: "تعرّفتُ هناك إلى النائب، خالدة جرار، القيادية في الجبهة الشعبية، وكذلك إلى لينا الجربوني، أقدم أسيرة فلسطينية وهي من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948".

وتحكي ديما بألم عن "فلسطينيات اعتقلن بعد إصابتهن بالرصاص، خلال أحداث الهبّة الجماهيرية الفلسطينية، التي اندلعت مطلع أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي. وذلك على خلفية التهمة نفسها التي وجّهت إليّ". وتذكر نورهان عواد التي تعاني من جراح تسببت بها أربع رصاصات اخترقت جسدها، واستبرق نور المصابة برصاصة واحدة في قدمها، ولما دويك، وحلوة حمامرة المصابة التي تعاني أيضاً من بعدها عن أطفالها، وأيضاً العروسين المصابتين ياسمين الزرو وأمل طقاطقة. وتحاول ديما أيضاً وصف إصابة الأسيرة عبلة العدم برصاصة معدنية أفقدتها إحدى عينَيها وقدرتها على الشمّ وعلى الأكل. كذلك تتذكّر الأسيرتين المقدسيتين شروق دويكات ومرح باكير.

إلى جانب ظروف الاعتقال القاسية التي تعيشها الأسيرات المصابات برصاص الاحتلال، تتحدّث ديما عن الأسيرات المريضات وقلّة الاهتمام الطبي بهنّ وعدم زيارة الأطباء لهنّ، وسط حاجة كبيرة للرعاية الطبية.

هناك خلف القضبان، تعلمت الطفلة الجميلة الكثير. تعلّمت التطريز والخياطة والطبخ، وكانت تشارك أيضاً في مسابقات وغيرها من الأمور، التي كنّ يقضين أوقاتهنّ بها.

في مرّة، سقطت أرضاً من على سريرها، ففقدت الوعي قبل أن تصحو على صراخ الأسيرات خوفاً عليها، بينما كانت تنزف من وجهها. تقول: "ليخرجن من السجن. حرام. بعضهنّ يخفن في الليل. فليخرجن. هنّ بريئات، لم يفعلن شيئاً".

عودة إلى الطفولة

"خرجت من السجن وخلصت منه"، تقول ديما وهي تحمد ربها. وتخبر بأنّ "حلمي عندما أكبر أن أصبح محامية لأدافع عن الأطفال المظلومين". هي أيضاً تشارك أطفال فلسطين أحلامهم بأن يتحرّر وطنهم، ليعيشوا طفولتهم في أمان، بعيداً عن رصاص جنود الاحتلال وقنابلهم وسجونهم.

قريباً، تعود ديما إلى مدرستها وصديقاتها. لكنّها سوف تحمل معها دائماً في داخلها، كلّ تفصيل صغير أو كبير عرفته في سجنها. وسوف تحافظ أيضاً على رسالة الأسيرات الفلسطينيات، اللواتي يقبعن في سجون الاحتلال الإسرائيلي وسط ظروف اعتقال صعبة.

تمكّنت ديما الجميلة، المبتسمة والمرحة دائماً، من العودة أخيراً إلى طفولتها، وإلى منزلها، وإلى سريرها، وإلى أهلها، وإلى شقيقاتها الصغيرات سارة وزينة وشهد. تمكّنت من العودة إلى الأخيرات ومشاركتهنّ أحلام الطفولة. قبل أيام، حُرّرت أصغر أسيرة فلسطينية من سجون الاحتلال الإسرائيلي.