يوم ورا يوم بيعدّي، وفشل وراء فشل يتواصل، واجتماع لجنة فنية، وبعدها انعقاد لجنة استشارية، يصاحب ذلك مراوغة وتسويف إثيوبي مستمر وواضح للعيان ولا تخطئه حتى عين طفل. في المقابل، تخاذل في الموقف المصري لحسم الملف لصالحها، تخاذل غير مبرر وغير مفهوم لمعظم المتابعين لهذا الملف الشائك.
من حين إلى آخر، تخرج علينا وسائل إعلام بعنوان كبير هو: "فشل الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا في التوصل إلى اتفاق بشأن سد النهضة"، كما حصل نهاية الأسبوع الماضي.
بعدها وقبلها ندخل في دوامات من الاجتماعات الوزارية والرئاسية التي تقرر إجراء مزيد من تشكيل اللجان لإعداد المزيد من الدراسات، وهات يا دراسات أولية عن تأثير بناء السد بيئيا، ودراسات فنية عن مدة ملء خزان السد، وثالثة عن مخاطر السد.
تتعثر المفاوضات، ثم تُستأنف المفاوضات مرة أخرى بشأن السد الذي جمعت إثيوبيا 4 مليارات دولار لتشييده. وما بين الفشل والاستئناف محاولات ثالثة لكسر الجمود الذي يعتري المحادثات التي لا تنقطع بين العواصم الثلاث، القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، من دون جدوى أو نتيجة واضحة، اللهم إلا نتيجة واحدة ومؤكدة هي مضي إثيوبيا في بناء السد على رغم الرفض المصري الظاهر والمتواصل والتحفظ السوداني الخجول.
فجأة، يجد المصريون أنفسهم أمام حقيقة مرة تقول إن القصة السوداء قد اكتملت، وأن إثيوبيا أكملت بناء سد النهضة الذي حلمت به منذ مئات السنين، لكن في السابق كانت قوة مصر وتمسّكها بحقوقها التاريخية في مياه النيل وعدم حاجة حكامها إلى شراء شرعية من الخارج، تقف لأحلام الإثيوبيين بالمرصاد.
اكتملت القصة التي تعد أكبر تهديد للأمن القومي المصري من ناحية الجنوب، لتبدأ إثيوبيا بعدها بملء خزان السد وحجز المياه التاريخية التي كانت تتدفق على مصر وبسرعة غير متوقعة.
وفجأة، سيجد المصريون أنفسهم "لابسين" في حائط إسمنتي طوله يزيد كثيرا عن عمق جدار سد إثيوبيا، فأمامهم سد النهضة، ووراءهم العطش وبوار أراضيهم وخراب القطاع الزراعي وقطاع الري وربما قطاعات صناعية على علاقة قوية بقطاع الزراعة.
ساعتها لن ينفع الندم، فمصر ستفقد من مياهها التاريخية نحو 20%، والنتيجة المتوقعة بوار ملايين الأفدنة الزراعية، ونقص حاد في الكهرباء المتولدة من السد العالي، ثم ارتفاع في أسعار الأغذية خاصة الأرز والقمح والفول والذرة، وزيادة كبيرة في أسعار مياه الشرب سواء القادمة من شبكات المياه العمومية التابعة للدولة أو من شركات تعبئة المياة الخاصة.
وبعد فوات الآوان وعدم تعامل صانع القرار المصري بجدية كافية مع هذا الملف، ستلجأ الحكومة المصرية إلى خيارات وحلول قاسية بحق المواطن لأنه "الحيطة المايلة"، فالكلام عن ضرب سد النهضة بالصواريخ المصرية والطائرات قد توارى، واختفى كما اختفى مشروع كفتة اللواء عبدالعاطي وعلاج الإيدز بصباع الكفتة ومشروع المليون وحدة سكنية للشباب واستصلاح 1.5 مليون فدان ونقل الاقتصاد المصري إلى مصاف الدول العظمى خلال عامين.
من هذه الحلول التي يدفعها ثمنها المواطن البسيط، زيادة أسعار المياه والكهرباء للحد من استهلاكهما، زيادة الغرامات بشأن هدر المياه، تجريم رش المياه في الشوارع، وربما حبس الشخص الذي يسيء إلى مياه الشرب، فتح باب الاستيراد على مصراعيه للسلع الغذائية، وربما المياه للحد من ارتفاع الأسعار داخل الأسواق، والتوسع في إقامة مشروعات تحلية مياه البحر.
هذا هو المتاح أمام الحكومة للتعامل مع كارثة سد النهضة
والنتيجة النهائية لكل ذلك، ضغط إضافي على الدولار والنقد الأجنبي والعملة المحلية في مصر، وضغط كذلك على إيرادات الدولة، خصوصاً من قطاعات الزراعة والصناعة والري والطاقة، ثم عجز متزايد للموازنة العامة، لا سيما أن خسائر قطاع الزراعة وحده ستبلغ نحو 150 مليار جنيه سنويا، وفقا لدراسات قامت بها مؤسسات بحثية بسبب تراجع حصة مصر المائية من مياه النيل.
كما ستوجه الحكومة الأموال المخصصة لبناء مستشفيات ومدارس ودعم السلع الرئيسية للطبقات الفقيرة، إلى أغراض أخرى فرضتها الحاجة والضرورة الملحة، منها إقامة محطات لتحلية مياه البحرين الأحمر والمتوسط ومد أنابيب نقل المياه المحلاة آلاف الكيلومترات، وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي، وإقامة محطات لتوليد الكهرباء لتعويض النقص المتوقع من كهرباء السد العالي.
إثيوبيا تخرج لسانها للجميع، بل ربما تعرض على مصر في وقت لاحق شراء الكهرباء المتولدة من سد النهضة وبأسعار عالمية، ولم لا؟ فهي ستصبح أكبر مصدّر للكهرباء في أفريقيا بعد انتهاء مشروع السد، وربما تكون مصر معبرا لتصدير كهرباء أثيوبيا إلى أوروبا وإسرائيل، وربما تساوم إثيوبيا مصر في المراحل النهائية لمشروع السد، على توصيل المياه إلى إسرائيل مقابل مد مدة سنوات ملء خزان السد.
الأمن المائي المصري في خطر ومعه الأمن القومي المصري، والدفاع عن مياه النيل مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى المصريين، هذه حقيقة لا مبالغة فيها، وبالتالي فإن السؤال: هل بقي أمام مصر وقت لتتحرك دفاعاً عن حصتها التاريخية البالغة 55.5 مليار متر مكعب، وهل لا تزال القاهرة تملك أوراق ضغط في هذه المرحلة الحساسة التي ستخفض حصتها من المياه بمقدار يتراوح بين 5 و10 مليارات متر مكعب سنويا، وهل الوقت لا يزال متاحا لإمكان اللجوء إلى التحكيم الدولي أو إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن؟
أخشى أن يكون الوقت قد تأخر كثيرا على طرح هذه الأسئلة، وأخشى كذلك أن يكون البديل المتاح أمام الحكومة المصرية هو مجرد تقديم شكاوى إلى المؤسسات الدولية، واللف على الأمم المتحدة ومجلس الأمن، في محاولة لإقناعهما بعدالة القضية المصرية في مياه النيل، وهنا يتحول ملف سد النهضة قضيةً فلسطينيةً جديدة.