وكأن المصريين على موعد جديد مع التقشف وشد الحزام ووهم نجاح برنامج الاصلاح الاقتصادي وقرب الخروج من عنق الزجاجة، موعد مع الغلاء والتضخم والبطالة والفقر المدقع وقفزات أسعار السلع وزيادة الضرائب والجمارك والرسوم الحكومية.
وبات المصريون أقرب من أي وقت مضى على موعد مع تحرير أسعار السلع والوقود والخدمات العامة، وزيادة فواتير المياه والغاز المنزلي والبنزين والسولار ومصروفات النظافة والصرف الصحي وتقليص عدد موظفي الدولة، وبيع المزيد من أصول الدولة بما فيها البنوك والشركات الاستراتيجية.
وبعد أن عاش المصريون ثلاث سنوات عجاف لم يشهدوا مثلها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في العام 1945، أو خلال هزيمة يونيو 1967 وبعدها حرب الاستنزاف، باتوا الآن على موعد مع ثلاث سنوات عجاف أخرى تنطلق من شهر مارس/آذار المقبل.
وما إن تنفس المصريون الصعداء مع قرب انتهاء برنامج تقشفي حاد نفذته الحكومة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي ولمدة ثلاث سنوات (2016- 2019)، وحصلت بموجبه على قرض قيمته 12 مليار دولار حتى كشف وزير المالية محمد معيط قبل أيام عن أن بلاده تجري محادثات غير رسمية مع الصندوق للحصول على قرض "لم يحدد قيمته" أو حزمة تمويل جديدة في شهر مارس 2020.
تصريحات متناقضة
تصريحات الوزير لوكالة بلومبيرغ الاقتصادية الأميركية تخالف تصريح الوزير نفسه السابقة، كما تصريحات المسؤولين والتي نفوا فيها بشكل قاطع الدخول في برامج جديدة مع الصندوق، أو الحصول على قروض أخرى من المؤسسة المالية الدولية، وأنه إذا حدث تعاون مستقبلي عقب انتهاء برنامج ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي الحالي فإنه سيكون قاصراً فقط على المشورة والنواحي الفنية دون التطرق لديون جديدة تضاف إلى القرض الحالي الذي لم يسدد بعد.
وبما أننا نتحدث عن قرض جديد تعتزم الحكومة المصرية الحصول عليه من صندوق النقد الدولي فإن هذا يعني إبرام برنامج مالي واقتصادي جديد مع الصندوق على غرار برنامج الاصلاح الاقتصادي الحالي.
وإذا كان البرنامج الحالي الذي تم البدء في تنفيذه في نوفمبر 2016 وينتهي منتصف الشهر القادم قد تضمن إجراءات عنيفة منها تعويم الجنيه المصري وخفض الدعم الحكومي المقدم لسلع رئيسية منها الأغذية والوقود والكهرباء وزيادة الضرائب وفرض ضريبة القيمة المضافة، فإن البرنامج المقبل ربما يتضمن إجراءات تقشفية قد تكون أكثر قسوة على المصريين استنادا إلى تجارب الدول الأخرى.
إجراءات تقشفية عنيفة
وقد تمتد الإجراءات التقشفية الجديدة إلى مجالات ظلت تشكل خطوطا حمرا لصانع القرار في البلاد خلال السنوات الماضية، منها مثلا :
1- خفض عدد الموظفين العاملين في الجهاز الإداري للدولة ربما للنصف وربما أكثر، وربما تصريح رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي الأخير والذي يشير فيه إلى حاجة الجهاز إلى 40% فقط من الموظفين الحاليين يصب في هذا الاتجاه.
2- أيضا، قد تتضمن الإجراءات الجديدة التي سيتم الاتفاق بشأنها مع صندوق النقد الدولي في البرنامج الجديد تحرير أسعار الكهرباء والمياه وغاز الطهي وبطاقات التموين بحيث يتم بيع السلع التموينية كالسكر والشاي وغيرها من الخدمات الأخرى مثل المياه والكهرباء بسعر التكلفة وحسب الأسعار المتداولة في العالم دون الأخذ في الاعتبار مستوى دخول المصريين المتدنية وتراجع فرص العمل وانتشار البطالة خاصة بين صفوف الشباب وخريجي الجامعات.
3- كما سيتم إجراء عدة زيادات لأسعار تذاكر القطارات ومترو الأنفاق ووسائل النقل العام والمواصلات بأنواعها المختلفة.
4- وربما تمتد الإجراءات التقشفية الجديدة كذلك إلى إلغاء بطاقات التموين واستبدالها بمبالغ نقدية، تعقبها زيادة سعر رغيف الخبز وربما تحريره في وقت لاحق أسوة بتحرير أسعار الطاقة والصرف والكهرباء.
5- كما قد تمتد الإجراءات لتشمل فرض مزيد من الضرائب على المصريين بحيث يتم فرض ضرائب على المكالمات التي يتم إجراؤها عبر تطبيقات فيسبوك وفايبر وايمو وواتس آب وغيرها.
6- فرض ضرائب كذلك على إعلانات مواقع التواصل الاجتماعي.
7- ربما يتم فرض رسوم عالية على مراحل التعليم الحكومي المختلفة وحتى مرحلة الثانوية العامة مع بحث إلغاء مجانية التعليم الجامعي الحكومي ومساواة مصروفاته بالتعليم الخاص.
8- وقد تفرض الحكومة في ظل الاتفاق الجديد مع صندوق النقد ضرائب على استهلاك المشتقات البترولية مثل البنزين والسولار والتحجج بأن العديد من دول العالم تفرض مثل هذا النوع من الرسوم تحت مسميات مختلفة منها ضريبة الطاقة التي تفرضها الحكومات الأميركية والأوروبية وغيرها ليس بهدف الجباية وجمع الأموال فقط بل بهدف الحد من التلوث ودفع المستهلك نحو استخدام الطاقة النظيفة مثل الغاز والطاقة الشمسية.
9- كما سيتم إجراء زيادات جديدة في رسوم الخدمات الحكومية مثل المرور والأحوال المدنية واستخراج التراخيص وغيرها.
10- كما سيتم التوسع في سياسة فرض الضرائب على المشروعات الصغيرة والمتوسطة رغم الحديث الحكومي عن ضرورة تشجيعها.
11- وقد تفرض الحكومة ضريبة أو رسوما على أرباح وعوائد ودائع المدخرين في البنوك، وذلك لأول مرة في تاريخ القطاع المصرفي على الرغم من خطورة تطبيق هذا الاقتراح، حيث يمكن أن يؤدي إلى حدوث موجة نزوح للأموال من القطاع المصرفي ووضعها تحت البلاطة أو ضخها في قطاع العقارات.
لكن الحكومة الحالية عودت المصريين على كسر الخطوط الحمراء حتى ولو تعلق الأمر بمدخرات المجتمع وتحويشة عمرهم ولقمة عيشهم، وبالتالي لا يستبعد أي مراقب فرض مثل هذه الرسوم خلال تطبيق البرنامج الثاني مع صندوق النقد.
تجربة مصر الحالية مع صندوق النقد كانت بالغة السوء، فقد أغرقت سياسات الصندوق وإملاءاته وشروطه التعسفية المصريين في أوحال الفقر المدقع والديون والقروض والتقشف والفقر، والأخطر ربط القرار الوطني بإملاءات وشروط خارجية قد تتنافى مع المصالح الوطنية.
فالحكومة المصرية أكدت عدة مرات أن من بين أهداف إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي خفض الدين العام وعجز الموازنة، لكن الواقع والأرقام الرسمية تؤكد أن حجم هذا الدين تضاعف أكثر من 4 مرات خلال 6 سنوات، وأن الدين الخارجي تجاوز 110 مليارات دولار والدين المحلي 6 تريليونات جنيه.
وأرقام الفقر مفزعة في ظل سياسات الصندوق، ويكفي أن نشير إلى أن الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقدر نسبة الفقر بين المصريين بأكثر من 32%، وهو ما يعني أن 30 مليون مصري ينتمون لدائرة الفقراء.
أما الغلاء فحدث ولا حرج، ويكفي أن نقول إن أسعار بعض أنواع الوقود ارتفعت بنسب بلغت 600%، وإن الجنيه المصري فقد نصف قيمته منذ قرار التعويم في نوفمبر 2016.
السؤال: لماذا يصر صانع القرار في البلاد على تكرار تجربة سيئة ساهمت في إذلال وإفقار المصريين ورفعت نسبة الفقر إلى معدلات غير مسبوقة وأطاحت بالطبقة الوسطى ونشرت الفساد، وفي ظلها تم إهدار المال العام.