لا زلت أتعامل بتحفظ شديد مع الأرقام والمعلومات التي جاءت على لسان الفنان والمقاول ورجل الأعمال المصري، محمد علي، انتظارا للرواية والأرقام الرسمية التي أرجو ألا تتأخر كثيراً نظرا لحساسية القضية. وأي باحث اقتصادي لا بد أن يستمع للرأيين حتى يكون حكمه على الأشياء صحيحا.
لكن بشكل عام فإن محمد علي نجح في فك شفرات كثيرة تتعلق بمظاهر الفساد في البلاد، و"سكك وأساليب" إهدار المال العام وصور البذخ الحكومي، وأولويات صانع القرار في إنفاق المال العام والتي قد تكون بعيدة عن اهتمامات رجل الشارع، خاصة إذا كان الهدف الأساسي منها هو أخذ "اللقطة".
كما أعاد صاحب شركة المقاولات الكبرى التذكير بما سبق وأن قلناه مراراً من أن الحكومة تقيم مشروعات ضخمة وبمليارات الجنيهات بلا دراسات جدوى وبالأمر والإسناد المباشر في بعض الأوقات، وهو ما يخالف نصوص القانون.
كما نجحت فيديوهات محمد علي المتلاحقة في الإجابة عن سؤال طرحه كثيرون ومنذ سنوات وهو: ما هو مصير المليارات التي اختفت فجأة من الموازنة العامة للدولة كما ذكر تقرير للجهاز المركزي للمحاسبات في العام 2017؟
وما هو مصير عشرات المليارات الأخرى المحققة من الوفورات المالية الضخمة في الموازنة العامة والناتجة عن خفض الدعم الحكومي المقدم لسلع رئيسية، وزيادة أسعار السلع والخدمات، ومنها الوقود الذي زاد 5 مرات خلال السنوات الخمس الأخيرة، وأين مليارات رفع أسعار المياه والكهرباء والغاز الطبيعي والضرائب والجمارك والرسوم الحكومية؟ لماذا ينعكس كل هذا الوفر على المالية العامة للبلاد؟
وكنت أتعجب دوماً من أن يخرج علينا من هم في دائرة صنع القرار ويعايرون المصريين بفقرهم، رغم أن القاصي والداني يعرف أن البلاد بها ثروات من الذهب والمعادن وآبار من النفط والغاز والثروات الطبيعية والبشرية، وأن اقتصادها أكثر تنوعاً وثراء حتى من الاقتصاديات الخليجية، لكنه الفساد الذي يمتص ثروات المصريين ويستنزف ما تبقى في جيوبهم إن كان قد تبقى شيء.
صاحب شركة أملاك للمقاولات، محمد علي، قال بشكل واضح إن المليارات الضخمة التي يتم جمعها من جيوب المصريين الخاوية ومن دخولهم ورواتبهم المحدودة يتم إنفاقها على الفنادق الخمس نجوم التي تتم إقامتها مجاملة للشلّة، وعلى القصور الرئاسية والفيلات التي تقام في كل مكان من بر مصر، ومنها القاهرة والإسكندرية والعلمين بالساحل الشمالي ومرسى مطروح والعاصمة الإدارية الجديدة وغيرها، وكذا على قصور تتم إقامتها في الصحراء ومزودة بأنفاق ثم يتم العدول عنها.
كما يتم إنفاق هذه المليارات على مشروعات لا تمثل أي قيمة مضافة للاقتصاد، وما تفريعة قناة السويس السابعة التي كلفت الموازنة أكثر من 100 مليار جنيه ببعيدة. وما لم يقله محمد علي هو أن مليارات أخرى يتم إنفاقها على إقامة المزيد من السجون والمعتقلات لاستيعاب المعتقلين السياسيين الذين تجاوز عددهم 60 ألفا.
في يناير 2017 كشف الجهاز المركزي للمحاسبات عن اختفاء 32.5 مليار جنيه من الموازنة العامة للدولة، ساعتها تخيلت أن البرلمان والنائب العام والأجهزة المسؤولة سيفتحون تحقيقاً عاجلاً لكشف حقيقة اختفاء كل هذه المليارات.
لكن خاب ظني، ومرت الأيام وتم الضرب بتقرير أهم جهاز رقابي في الدولة عرض الحائط، بل وتم إلقاء القبض على رئيسه هشام جنينة في وقت لاحق حينما كشف عن أن فاتورة الفساد في مصر فاقت 600 مليار جنيه في عام 2015 وحده، ولا نعرف حتى اللحظة حقيقة التقرير وما إذا كانت الأموال المختفية حقيقية أم ناتجة عن عمليات شابها فساد.
أما بالنسبة لمليارات فاتورة الدعم التي تم توفيرها خلال السنوات الخمس الأخيرة، فحدّث ولا حرج. ويكفي أن نقول إن الموازنة العامة للدولة وفرت 35.8 مليار جنيه من فاتورة دعم الطاقة فقط خلال العام المالي 2018-2019، لماذا لم ينعكس هذا الوفر على أرقام الدين العام أو قلص عجز الموازنة العامة، والتي شهدت أرقامهما تضخما كبيرا خلال السنوات الأخيرة. ولماذا لم ينعكس تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية على الموازنة والدين الحكومي؟
كما أن مليارات الدعم المتوفرة لم تنعكس على أداء أهم قطاعين خدميين في البلاد، هما الصحة والتعليم، بشهادة البنك الدولي وأعضاء في البرلمان. فلم نشهد مثلا إقامة مئات المستشفيات والمدارس، أو حتى تطوير الرعاية الصحية، أو رفع مستوى الخدمة التعليمية، رغم حصول الحكومة على منحتين لا تردّان من البنك الدولي تزيد قيمتهما عن مليار دولار لتطوير القطاعين.
ولماذا لم نر انعكاساً وأثراً لهذه المليارات المتوفرة من زيادة أسعار الوقود والكهرباء وغيرها على حياة الناس الذين باتت معيشتهم "ضنكا وعذابا"، بعد أن تجاوز عدد فقراء مصر 33 مليون مواطن بشهادة الحكومة نفسها، ونحو 60 مليونا بشهادة مؤسسات دولية.
وهناك 12 مليار جنيه تم توفيرها من فاتورة دعم الكهرباء خلال العام المالي الحالي، فما هو مصير هذه المليارات؟ هل يتم إنشاء محطات توليد كهرباء إضافية؟
الواقع يقول عكس ذلك، فالحكومة تعتزم بيع 3 محطات لمستثمرين أجانب، والواقع يقول أيضا إن معظم المحطات التي تمت إقامتها خلال السنوات الماضية جرت بقروض من البنوك، سواء المحلية أو الخارجية.
كما أن الواقع يقول إن الحكومة حصلت في شهر إبريل 2016 على قرض ضخم من الحكومة السعودية بقيمة 23 مليار دولار ولمدة 5 سنوات توجه حصيلته لتمويل استيراد المشتقات البترولية من بنزين وغاز وسولار ومازوت.
وهذا الأمر ساهم في القضاء على أزمة نقص الوقود التي كانت تمر بها البلاد، خاصة في منتصف عام 2013، كما تم استغلال هذه الأزمة لتأليب المصريين ضد حكومة الدكتور محمد مرسي.
لا زلت متحفظا على الأرقام الواردة على لسان الفنان ورجل الأعمال محمد علي لحين صدور الرواية الرسمية، لكن لم أفاجأ بالكلمات الصادرة عن الرجل ، لأن مظاهر الفساد لا تخطئها عين، والرجل، وحسب كلامه، كشف عن شيء واحد وهو أين تذهب أموال دافعي الضرائب والجمارك والرسوم في مصر، وأين يذهب الوفر المالي الضخم الناتج عن زيادة أسعار السلع الغذائية كالأرز والسكر، وكذا البنزين والسولار والغاز والأدوية والسجائر.
ولماذا يتفاقم الدين العام والموازنة يوما بعد يوم، رغم القروض الخارجية الضخمة التي زادت أكثر من 67 مليار دولار خلال السنوات الخمس الأخيرة، لتقفز من 43 مليار دولار إلى نحو 110 مليارات دولار حالياً، وكيف أن حفل تفريعة قناة السويس السابعة تكلف وحده ما بين 50 و60 مليون جنيه، وهو مبلغ يكفي إقامة عدة مدارس.
أرجو ألا تتأخر الرواية الرسمية قبل أن يخرج علينا محمد علي آخر مستقبلاً ليكشف لنا عن مصير ثروات أخرى، وحقيقة منجم السكري للذهب، وحقل ظهر الذي يصنّف على أنه أكبر حقل لإنتاج الغاز الطبيعي في حوض البحر المتوسط، ومع ذلك تستورد مصر الغاز من إسرائيل ولمدة 10 سنوات مقبلة، ولماذا لم يستفد المواطن من خيرات هذا الحقل الضخم وحقول نفطية وغازية أخرى، وما هو مصير ثروات مصر النفطية والتعدينية الأخرى؟