تحت أشعة الشمس الحارقة، يوزع المقاول الفلسطيني محمد أبو جبة عدداً من العُمال في مهنة استخراج وتعديل الحديد من الركام الناتج عن القصف الإسرائيلي، لإعادة استخدامه في بناء البيوت والغرف الصغيرة.
ويعمل أصحاب تلك المهنة الشاقة كخلية نحل متكاملة الأدوار في تكسير المكعبات والقطع الأسمنتية الكبيرة لاستخراج أسياخ الحديد، ومن ثم تعديلها يدوياً باستخدام مكن حديدي، وتمديده جنباً إلى جنب، وفق الصنف والحجم.
واشتهرت صناعتا تكسير الردم لاستخراج مخلفات المباني ومنها أسياخ الحديد وتعديلها تمهيداً لإعادة استخدامها مرة أخرى إثر الحرب الإسرائيلية الأولى على قطاع غزة عام 2008، والتي أدت إلى دمار واسع تزامن مع منع دخول مواد البناء الأساسية.
ويفسر المقاول أبو جبة سر لجوء عدد من العمال لمهنة تعديل الحديد، بالقول: "دفعت الأوضاع الاقتصادية الصعبة العديد من المواطنين للعمل في مهن غاية في المشقة والتعب، وذلك في حاجة منهم لتوفير أدنى مستلزمات حياتهم اليومية".
ويوضح أبو جبة لـ "العربي الجديد" أنه يعمل في إزالة الركام الناتج عن القصف الإسرائيلي على قطاع غزة منذ نحو 10 سنوات، وهي المهنة ذات الهدف المزدوج، بداية برفع الركام الضار والذي يعيق حركة المواطنين، وحركة البنيان، ومن جانب آخر إعادة تدوير هذا الركام مجدداً، خاصة مع انقطاع مواد البناء وغلاء ثمنها.
ويلفت إلى أنّ الفلسطينيين في القطاع استطاعوا التغلب على جزء من حلقات الحصار المحكمة عليه، بصنع الكسارات، وتفعيل المكن اليدوي الخاص بتعديل الحديد، موضحاً أن العمل ينقسم إلى عمل الشاحنات والمعدات الثقيلة مثل "الجرافات، الباجر، والشاحنات"، مهمتها تكسير المبنى ونقله إلى الكسارات، بينما يختص القسم الثاني، وهو الأعمال اليدوية، باستخراج أسياخ الحديد من الخرسانة، ومن ثم تعديلها.
ويلجأ مواطنون في غزة لشراء الحديد المُعاد تعديله، بسبب رخص ثمنه مقارنة بالأصناف الجديدة، ويرجع ذلك للحصار الإسرائيلي، وما تسبب به من أوضاع اقتصادية سيئة، وعدم انتظام صرف الرواتب، وقطع نسبة كبيرة منها.
وبين أكوام الحديد الملتهب بفعل درجات الحرارة العالية، يقف العامل حسن الشنباري (45 عاماً) من مدينة بيت حانون شمال القطاع أمام مكنة خاصة بتعديل الحديد، يساعده في العمل أبناؤه محمود، علي، ومحمد، ويشير إلى أنه يعمل في هذه المهنة منذ 15 عاماً.
ويوضح الشنباري، والذي تدرج في عدد من الأعمال المرهقة، قبل عمله في تعديل الحديد أن انعدام البدائل دفعه وأولاده إلى العمل في هذه "الأعمال الشاقة" حسب تعبيره، مضيفاً: "لا أحد يرغب بالعمل بين الحديد الساخن طيلة الوقت".
أما عن جدوى العائد من وراء هذه المهنة، فيقول لـ"العربي الجديد": "أحصّل يومياً من 30 إلى 35 شيكلاً (الدولار = 3.59 شيكل) إلا أنني مضطر لإعالة أسرتي المكونة من عشرة أشخاص لا يمتلكون أي دخل سوى شيك الشؤون الاجتماعية كل ثلاثة شهور".
ويقول ابنه محمود لـ "العربي الجديد" إنه يعمل برفقة والده من السابعة صباحاً، حتى الخامسة مساءً، وسط أجواء غاية في الإرهاق، ويتابع: "لا يوجد أمامنا أي خيار آخر".
ولا يختلف الوضع كثيراً عند العامل أحمد دغمش، والذي امتهن تلك المهنة لتوفير قوت يوم أطفاله الخمسة، مبيناً لـ "العربي الجديد" أنه وعلى الرغم من العمل لساعات طويلة، إلا أن الجسد تعوّد على هذا الكم من التعب.
يوافقه في الرأي الأربعيني محمد نصير من مدينة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، والذي يعيل أسرة مكونة من عشرة أفراد، موضحاً أنه بدأ منذ عام 1999 بالعمل في هذه المهنة، قبل انتشارها بشكل ملحوظ، ولجوء نسبة كبيرة من المواطنين إلى العمل بها.
يوضح نصير لـ "العربي الجديد" أن تعامله المتواصل مع الأسياخ الساخنة، والتي يضطر لتحريكها يميناً ويساراً بغرض تعديلها، يسبب آلاماً كبيرة في اليدين، تضطره إلى نقعها بالماء الساخن كي تلين مجدداً.