تواجه إيران العديد من التحدِّيات الرهيبة التي تزداد صعوبتها كل مرّة. فقد تمكَّن هذا البلد من امتصاص مختلف أنواع الصدمات في السابق، لكن هذه المرة أفلت زمام الأمور من يده، لينقلب اقتصاده رأساً على عقب عندما شهد قفزة كبيرة في عدد الوفيات بسبب فيروس كورونا، وأيضاً المصابين به، حيث تحتلّ إيران مرحلة متقدمة بعد الصين وإيطاليا من حيث عدد الإصابات المؤكدة بفيروس "كوفيد-19" التي قُدِّرت حتى أمس الاثنين 22 يونيو 2020 بأكثر من 207 ألف حالة، وبلغ عدد الوفيات ما يقرب عشرة آلاف ضحية.
وتكمن صعوبة احتواء تفشي وباء كورونا في تزامنه مع العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، فكيف يمكن إيران، في ظلّ تلك العقوبات الجائرة، الصمود في هذه المحنة الصحية والإنسانية، في الوقت الذي تغرق فيه دول أخرى غير مقيدة بقيود وعراقيل مماثلة؟
لم يبقَ أمام الحكومة الإيرانية سوى خيار إطلاق رسائل إغاثة طارئة للدول والمنظمات الدولية. وبالفعل، استجابت العديد من الدول للنداء الإيراني كالصين، قطر، الكويت، تركيا، روسيا، ألمانيا، فرنسا وبريطانيا، وطالبت بعض الدول كالصين وباكستان إدارة ترامب برفع العقوبات الشديدة عن إيران.
لكن الإدارة الأميركية - كعادتها - تضع أذناً من طين وأذناً من عجين، وتتمسَّك بحجة موقفها السابق والمتمثل بعرض تقديم مساعدات لإيران مقابل تسلُّم طلب خطي لتلقِّي تلك المساعدات من الجانب الإيراني، وهي سياسة لا تعدو كونها مجرَّد لعبة أميركية لليِّ ذراع الإيرانيين وضمان ركوعهم وخضوعهم.
بل إن الممثل الأميركي الخاص بالشأن الإيراني، برايان هوك، قال يوم 28 مايو الماضي إن سياسة "الضغوط القصوى" التي ينتهجها ترامب تخيّر إيران بين التفاوض مع الولايات المتحدة أو مواجهة انهيار اقتصادي نتيجة العقوبات.
وتعلم إيران مسبقاً بأنّ أميركا هي سيدة القرار عندما يتعلق الأمر بالتمويل الممنوح من قبل صندوق النقد، لكنّها أرادت أن تضع مجلس إدارة هذا الصندوق في موقف محرج وتزيل عنه قناع التظاهر برصد مساعدات مالية تُقدَّر بـ 50 مليار دولار لجميع الدول التي تعاني من تفشي فيروس كورونا القاتل دون استثناء. وبالفعل، رفض الصندوق الاستجابة لطلب إيران ومنحها القرض المطلوب.
لقد ساهمت العقوبات الأميركية المفروضة على البلاد، وكذا التزام الدول الأوروبية بها، في تدهور الاقتصاد الإيراني بشكل كبير، وذلك منذ انسحاب أميركا من الاتفاق النووي مع طهران في 8 مايو/ أيار 2018، حيث تقف إيران مكتوفة الأيدي أمام فيروس كورونا ومواطنيها الذين يئنون ألماً بسبب عدم قدرتها على استخدام أموالها المجمَّدة في البنوك الأجنبية بالخارج التي تفوق 150 مليار دولار من أجل توفير المعدات الطبية اللازمة للتصدِّي لانتشار هذا فيروس، ولا سيَّما أنّ المساعدات التي تلقَّتها إيران من الخارج لا تكفي سكانها الذين يتجاوز عددهم 81 مليون نسمة.
وطبقاً لتقرير هيومن رايتس ووتش Human Rights Watch الصادر سنة 2019، تعوق العقوبات الأميركية بشكل كبير حصول المواطنين الإيرانيين العاديين على الأدوية والمستلزمات الطبية، وبالطبع ترامب لا يكترث بأمر الأبرياء الذين لا يجب أن يدفعوا ثمناً باهظاً مقابل الخلافات السياسية بين الحكومات، ويحاول قدر الإمكان استغلال كارثة كورونا لخلق أرضية جديدة للابتزاز السياسي والاقتصادي.
علاوة على كل العقوبات المفروضة عليها، زاد وباء كورونا من شدّة عزلة إيران بعد اضطرارها إلى قطع شريان حياتها الاقتصادية الرئيسي عبر إلغاء كل الرحلات الجوية حتى التجارية من الصين وإليها، وكذا قيام العديد من الدول في منطقة الشرق الأوسط وآسيا بوقف الرحلات الجوية والبرية إلى إيران، وانقطاع الرحلات مع أهمّ شريكين اقتصاديين كالصين والعراق يعني حدوث انكماش اقتصادي خطير في إيران بأكثر من النسبة التي حدَّدها صندوق النقد الدولي والمتمثلة في 9.5 بالمائة قبل تفشي وباء كورونا.
بلغ الريال الإيراني أضعف مستوياته مقابل العملة الأميركية، حيث عُرض الدولار يوم الخميس الماضي عند مستوى مرتفع جداً بلغ 193 ألف ريال إيراني بسبب الانكماش الحاد في الطلب على الصادرات النفطية والمعدنية الإيرانية، وكذا انخفاض أسعار النفط.
وسيؤدِّي هذا التراجع الحاد في العملة إلى تفاقم التضخم سنة 2020 بأكثر من نسبة 30 بالمائة التي سبق أن قدَّرها صندوق النقد الدولي في تقريره الصادر سنة 2019، وهكذا ستلحق أضرار جمّة بالاستهلاك المحلي أيضاً، وسيُسبِّب الهبوط الحاد في الصادرات الإيرانية ارتفاعاً شديداً في معدل البطالة بما يزيد على نسبة 17.44% التي حدَّدها الصندوق لسنة 2020.
وحسب بيانات حديثة صادرة عن غرفة تجارة طهران، فإن الصادرات الإيرانية هوت بنسبة 36% خلال الشهر الأول للعام الجديد، الذي بدأ في 20 مارس/ آذار، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
والأمر نفسه بالنسبة إلى الإنفاق العام الذي سينخفض، لا محالة، بسبب تراجع الصادرات الإيرانية، وهذا ما سيؤدِّي إلى حدوث اضطرابات اجتماعية أعنف من ذي قبل، هذا إضافة إلى تدافع المواطنين على سحب مدخراتهم وعدم تفكيرهم في الاقتراض والاستثمار. ونتيجة لكل ما سبق ذكره، سينخفض معدل النمو الاقتصادي السالب إلى ما دون -9 بالمائة التي بلغها سنة 2019.
يقف النظام الحاكم في إيران على مدى أربعة عقود عاجزاً في هذه المحنة العويصة، ولا سيَّما في ظلّ تعنُّت أميركا ورفضها لكل الأصوات الدولية المنادية بضرورة رفع كل العقوبات التي ستودي بحياة الآلاف في إيران. لقد كانت شعبية النظام بالفعل في الحضيض قبل أن يتفشى الفيروس، ليس فقط بين المواطنين، بل بين صفوف الحكومة أيضاً.
اقــرأ أيضاً
ويبدو أنّ هذا الوباء الملعون سيجهز على ما بقي من تلك الشعبية، ولا سيَّما مع عجز النظام عن توفير السلع الضرورية والمعدات والمستلزمات الطبية والعلاجية، وكلما طالت مدة انتشار الوباء، اتَّسعت دائرة الأزمة الخانقة، وازداد عمق الهبوط الاقتصادي الذي ترغب أميركا وحليفتها الأزلية إسرائيل برؤيته في أقرب الآجال.
خلاصة القول، أنّ تأثير فيروس كورونا المجهري يفوق بكثير تأثير العقوبات الأميركية على الاقتصاد الإيراني، لأنّه سبَّب غلق النوافذ الاقتصادية الاستراتيجية التي كانت مفتوحة لإيران، ويبدو أنّه حقَّق الخراب الاقتصادي الذي عجزت عن تحقيقه سنوات من الإجراءات الأميركية والغربية المجحفة.