الدول لا تبني القصور بالاستدانة والقروض الخارجية، ولا تبني القصور في حال وجود عجز ضخم ومزمن في الموازنة العامة للدولة، أو في حال تفاقم الدين العام ووصوله لمستويات قياسية، ولا تبني القصور من أموال الدعم، أو من حصيلة زيادة أسعار السلع الرئيسية وفي مقدمتها السكر والزيوت والأرز والبنزين والسولار والغاز المنزلي وغيرها.
ولا تبني الاستراحات الحكومية من أموال دافعي الضرائب وصغار الموظفين، أو من حصيلة زيادة فواتير الكهرباء والمياه والرسوم الحكومية، أو من اقتطاع أجزاء من مخصصات أنشطة التعليم والصحة والبحث العلمي.
قبل أن يفكر "محمد علي الكبير" في إقامة قصور رئاسية واستراحات ملكية ودار للأوبرا ومقار جديدة لمجلس الوزراء، فكر أولاً في إعادة بناء مصر، وقبلها فكر في توفير التعليم الحديث والرعاية الصحية ومقاومة الأمراض مثل الكوليرا والجدري.
وعلى الرغم من أن محمد علي كان ألباني الجنسية إلا أنه يعد "مؤسس مصر الحديثة"، حكم البلاد في الفترة ما بين عامي 1805 إلى 1848، وشهدت مصر على يديه نهضة تعليمية وزراعية وعسكرية وعمرانية، إضافة إلى قفزات في أنشطة وقطاعات أخرى منها الري والكباري والطرق والعمران والصحة والبحث العلمي.
كما أدخل محمد علي أصنافاً جديدة من القطن في إطار خطته تحسين قطاع الزراعة الذي كان يراهن عليه باعتباره ركناً أساسياً في خطة استقلالية القرار الاقتصادي المصري وزيادة موارد البلاد من النقد الأجنبي.
ارتبط اسم محمد علي الكبير بالاستقلال السياسي وبمشروعات عملاقة مثل تأسيس جيش نظامي لمصر في العام 1815، عندما عاد من حرب الوهابيين، وإنشاء مصانع للأسلحة حتى لا يكون تحت رحمة الدول الأجنبية المحتلة وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
أسس مصنع الأسلحة والمدافع في القلعة في 1827 كبداية لهذا النشاط، كما أسس مدينة الخرطوم وكسلا، واهتم بالنقل البحري والبري حيث شيّد فناراً لإرشاد السفن في منطقة رأس التين بالإسكندرية، وأنشأ دفترخانة لحفظ الوثائق الحكومية، وعبّد الطرق التجارية ونظّم حركة البريد.
ارتبط اسم محمد علي بمشروعات عملاقة أخرى مثل القناطر الخيرية وقناطر أسيوط واسنا بصعيد مصر، وهي المشروعات التي حمت البلاد من الفيضانات ووفرت للمزارعين مياهاً للزراعة والري في أوقات انخفاض منسوب مياه نهر النيل.
كما أنشأ المدارس الابتدائية الحديثة والكليات والمدارس العليا وديوان المدارس ومدارس الألسن والطب والصيدلة والولادة والهندسة والفنون والصناعة والزراعة، كما أسس مصانع الغزل والنسيج للاستفادة من القطن المصري الشهير، وطبق سياسة الاستغناء عن استيراد الملابس والأقمشة من الخارج خاصة المتعلقة بالجيش، وارتبط عهده بالبعثات التي أوفدها للتعلم في الخارج خاصة في فرنسا وإنجلترا والنمسا.
وفي المجال الطبي، بذل محمد علي جهوداً كبيرة للنهوض بحالة البلاد الصحية ومقاومة الأمراض وتوفير رعاية صحية للمصريين، فنشر تطعيم الجدري لمقاومة انتشاره في القطر المصري، وكافح مرض الكوليرا الذي حل بالبلاد سنة 1830.
خلال فترة حكم محمد علي، استطاع الرجل أن ينهض بمصر اقتصادياً وعسكرياً وتعليمياً وصناعياً وزراعياً وتجارياً وعلمياً، وكان هدفه هو تحقيق الاستقلال السياسي وتحويل البلاد إلى مركز ثقل إقليمي، مع إقامة مجتمع صناعي حديث.
ولذا عمل على تنمية ثروة البلاد البشرية وتزويد العمالة المصرية بالخبرات الأجنبية في كل المجالات، وتقوية مركز مصر المالي عبر تنشيط النواحي الاقتصادية وتثبيت سياسة الاعتماد على الموارد الذاتية والصناعة المحلية.
اهتم محمد علي كذلك ببناء دولة عصرية على النسق الأوروبي، ولذا استعان في مشروعاته الاقتصادية والصناعية بخبراء أجانب خاصة من أوروبا، وكانت أهم دعائم بناء دولته الحديثة سياسته التعليمية الحديثة.
كما بنى قاعدة صناعية لمصر، لتوفير احتياجات الجيش، واهتم بالزراعة والفلاح المصري، فاعتنى بالريّ وشق الترع وتشييّد الجسور والكباري وتوسع في سياسة استصلاح الأراضي وزيادة الرقعة الزراعية.
لم يبدأ محمد علي عهده بإقامة القصور الرئاسية، بل بدأ بمشروعات توفر للبلاد استقلالها العسكري والاقتصادي والمالي ومعها توفير الخدمات الأساسية للمواطن من تعليم وصحة وصناعة وزراعة وتجارة وري.
وكان رأيه أن الدول تشيد القصور الرئاسية بعد أن تكون قد أنجزت الأولويات للاقتصاد الوطني والمواطن، وفي مقدمة مذه الأولويات تأسيس مستشفيات لتوفير الرعاية الصحية لملايين المصريين الذين كان المرض ينهش أكبادهم وأجسادهم النحيفة، وإقامة مدارس وجامعها ومعاهد للتعليم ومقاومة الجهل، وتشييد مصانع لتوفير فرص عمل والحد من الاعتماد على الخارج.