ولا يخفي رجال الأعمال وكبار المتعاملين الاقتصاديين في تونس دعمهم لمرشحي الانتخابات الرئاسية، حيث لا تخلو حملات المترشحين من مختلف الأحزاب السياسية من حضور بارز لشخصيات اقتصادية نافذة، فيما تظل الأرقام المالية التي يضخها رجال الأعمال في حسابات الأحزاب والمترشحين مخفية، رغم قوانين الرقابة الصارمة على حسابات الأحزاب والحملات الدعائية وسط تحذيرات من التأثيرات السلبية الخطيرة للمال السياسي الداخلي والخارجي.
تسرب المال الأجنبي
يثير دعم رجال الأعمال المكثف لمترشحي الرئاسة مخاوف من توجيه المال السياسي الداخلي وشراء أصوات الناخبين نحو مرشحين لتحقيق مصالح خاصة، كما لا يخفي مراقبون ومرشحون قلقهم من تسرب المال الأجنبي القادم من دول تسعى إلى التأثير على العملية الانتخابية في تونس، وخاصة من الإمارات.
وكشف المرشح المستقل للرئاسية ورئيس الحكومة الأسبق (2011 - 2013)، حمادي الجبالي، الأحد الماضي، عن تسرب مال سياسي خارجي قائلاً إن "الإمارات تخرق السيادة الوطنية بالإملاءات والمال والإعلام".
وأضاف الجبالي أن "السيادة التونسية تبنى على القيم التي أتت بها الثورة ونصرة الشعوب وحقوق الإنسان".
ويلعب المال السياسي الخارجي والدعم اللوجستي والمادي الذي يقدمه رجال الأعمال المحليون دوراً مهماً في الانتخابات التونسية فيما تسعى هيئة الانتخابات ومنظمات المراقبة المدنية إلى تقفي أثر هذه الأموال والحد من تأثيرها أو تأثير الأموال الأجنبية على أصوات الناخبين.
وأكد عضو منظمة شبكة مراقبون (منظمة مدنية لمراقبة الانتخابات) محمد مرزوق أن الانتشار الميداني لمراقبي الشبكة أكد وجود فوارق كبيرة في تمويل الأحزاب، مشيرا في تصريح لـ"العربي الجديد" إلى مرشحين يملكون إمكانات "مهولة" تكشف حجم الدعم المالي الذي تتلقاه أحزابهم.
وقال مرزوق إن الشبكة أعلمت هيئة الانتخابات بشكوك حول تسرب مال سياسي خارجي تمت ملاحظته من الإمكانات المالية الكبيرة التي تم تسخيرها في حملات بعض المترشحين، وفق تأكيده.
انحياز رجال الأعمال
في الوقت الذي لازم فيه الصمت منظمات الأعمال وعدم الكشف عن المرشح الذي تدعمه للانتخابات الرئاسية، إلا أن أعضاء من مكتبها التنفيذي وهياكلها القطاعية لا يجدون أي حرج في الدعم الواضح لهذا المرشح أو ذاك عبر مشاركته في تنقلاته أثناء الحملة الانتخابية أو في حضور الاجتماعات العامة التي تنتظم في هذه الفترة.
ويختلف دعم رجال الأعمال في حملات المترشحين للفوز بالرئاسة، إذ يراهنون على الشخصيات الأقرب للفوز في الانتخابات.
ومن جانبه، يقول عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (منظمة رجال الأعمال) عبد السلام الواد إن المنظمة لم تصدر أي موقف رسمي من المترشحين، غير أن أعضاء من داخل المكتب حددوا خياراتهم بصفة شخصية ويدعمون المرشح يوسف الشاهد على سبيل المثال.
وقال في تصريح لـ"العربي الجديد" إن دعم المرشحين لا يقف عند المشاركة في الحملات الانتخابية أو الحضور في الاجتماعات، بل تمتد مساعدة رجال الأعمال إلى مجالات أخرى لمساندة مرشحهم.
إلا أنه أكد التزام رجال الأعمال في تمويل الحملات الانتخابية بالتشريعات والمبالغ التي يحددها القانون الانتخابي وبأموال محلية.
وتوقع عبد السلام الواد أن تصدر منظمة الأعمال موقفا رسميا من المرشح الذي ستدعمه في الدور الثاني.
وقبل انطلاق الحملة الانتخابية نشرت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بلاغاً بخصوص سقف التمويل الانتخابي بالنسبة للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها في دورتيها الأولى والثانية، بعد أن كانت رئاسة الحكومة قد أصدرت يوم 27 أغسطس/ آب الماضي أمراً حكومياً يتعلق بتحديد السقف الإجمالي للإنفاق على الحملة الانتخابية وسقف التمويل الخاص وبتحديد سقف التمويل العمومي وضبط شروطه وإجراءاته بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وحسب بلاغ هيئة الانتخابات قدرت الهيئة السقف الإجمالي للإنفاق على الحملة الانتخابية للمترشح الواحد في الدور الأول من الرئاسيات السابقة لأوانها بـ 1.768 مليون دينار، أي نحو 618 ألف دولار، منها 1.414 مليون دينار تمويل خاص.
وبخصوص الدور الثاني من الرئاسيات المقبلة أوضحت هيئة الانتخابات أن السقف الإجمالي للإنفاق على الحملة الانتخابية للمترشح الواحد في هذا الدور الثاني حدد بـ 1.061 مليون دينار، منها 848 ألف دينار تمويل خاص.
من جهة أخرى أوضحت هيئة الانتخابات أنه يمكن للذوات الطبيعية دون سواها القيام بتمويل خاص لحملة المترشح للانتخابات الرئاسية بحساب 30 مرة الأجر الأدنى المضمون في القطاعات غير الفلاحية للفرد الواحد، وهو ما يعادل 12 ألف دينار، أي ما يعادل 4.1 آلاف دولار.
صعوبة المواجهة
يعتبر الباحث والخبير الاقتصادي شكري بن عيسى أن المال السياسي الذي وقعت فيه الانتخابات يصعب اليوم بالوسائل والآليات القانونية والفعلية الخروج منه أو التخلص من تبعاته الخطيرة.
ودعا بن عيسى إلى ضرورة تدخل الاتحاد العام التونسي للشغل لإحداث توازن، ولو هشاً، معتبراً أنه على الأقل يضمن عدم إطباق لوبي الفساد على المشهد السياسي بشكل واسع يجعل التدارك في المستقبل عسيراً.
وقال بن عيسى في تصريح لـ"العربي الجديد" إن زواج المال والسياسة فرضته حاجة الطرفين العميقة، وصار واقعاً معيشاً متغلغلاً في الحياة الوطنية التونسية، معتبراً أن هذا الالتقاء بين أصحاب المال والسياسيين يزداد حدة مع الموعد الانتخابي التشريعي والرئاسي، بحسب قوله.
وأضاف بن عيسى أن منظمة رجال الأعمال ورغم ادعائها الحيادية إلا أنها نجحت في اختراق القوائم الانتخابية التي ستقودها إلى مواقع نفوذ كبيرة في الحكم، وستذهب بشكل أو بآخر بالبلاد في مسار الخيارات الليبرالية المتوحشة التي ستعيد إنتاج، بشكل عميق، منظومة الفساد السياسي والاقتصادي والثقافي والتربوي، وفق تقديره.
واعتبر بن عيسى أن هشاشة الأحزاب وضعف الديمقراطية والشفافية داخلها يبعثان على الانشغال، خاصة أنه لا يوجد ما يضمن نزاهة معاملاتها المالية ويضمن عدم استيعابها المال الفاسد من الداخل أو من الخارج، حسب قوله.
وينظم المرسوم التشريعي عدد 87 الصادر يوم 24 سبتمبر/ أيلول 2011 المتعلق بالأحزاب السياسية، آليات تقديم التبرعات والهبات من الأفراد لصالح الأحزاب. وينص بأنه على "كل حزب أن ينشر تقاريره المالية في صحيفة تونسية أو على موقعه الخاص على الإنترنت، ويقدّمها بعد ذلك إلى ديوان المحاسبة مع حظر أي شكل من أشكال التمويل الأجنبي".
تحصين صندوق الانتخابات
بدوره أكد رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب، في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية (وات)، أنّ الهيئة وبقية الهيئات العمومية المستقلة تريد أن تكون الرقابة على العملية الانتخابية آنية قدر الإمكان، بعد أن كانت دائماً لاحقة بعد الانتخابات، وذلك لتحصين الصندوق من كلّ الشوائب، على حد تعبيره.
وصرح بأنّ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تلقت عشرات الملفات المتعلقة بالمال السياسي الفاسد، معظمها تبليغ عن شبهات مخالفات، مبيناً أن الهيئة بصدد التقصي في شأنها والتثبت منها مع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ومحكمة المحاسبات، مع الأخذ بعين الاعتبار قرينة البراءة ومحاولة البعض ضرب منافسيهم.
وأفاد بأن هناك ملفات تقع إحالتها مباشرة على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لاتخاذ إجراءات بشأنها وأخرى على محكمة المحاسبات، مشيراً إلى أنّه في حال ثبوت فساد مالي في علاقة بالحملة الانتخابية واللوائح والقوانين التي تنظم العملية الانتخابية، فهي من مسؤوليات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ومسؤولية محكمة المحاسبات.
وقال الطبيب إن الانتقال الديمقراطي في تونس "مهدد بالمال السياسي ولوبيات الفساد والتدخل الأجنبي في الحياة السياسية"، وأشار إلى أن الهيئة لاحظت كثيراً من الانحرافات في مستوى "اصطفاف بعض الأحزاب وراء الأجنبي وتحرك بعض السفارات الخارجية للتأثير على الحياة السياسية التونسية".
ويضع تصاعد المال السياسي في الانتخابات التونسية الجهاز المصرفي والبنك المركزي في وضع تأهب شديد لمراقبة التحويلات المالية المتأتية من الخارج وحسابات السياسيين للتثبت من الأموال المشبوهة التي تتأتى من الخارج.
ويعتبر الكاتب العام للجنة التحاليل المالية بالبنك المركزي، لطفي حشيشة، في تصريحات صحافية، أن خط الدفاع الأول للتثبت في الأموال هي البنوك أساساً وليس البنك المركزي، مشيراً إلى أن البنوك مطالبة بإحالة ملفات التمويلات المشبوهة على لجنة التحاليل المالية.
وحسب مواد القانون الانتخابي المتعلقة بالرقابة المالية يشرف البنك المركزي التونسي على عملية فتح الحسابات البنكية المذكورة ويسهر على عدم فتح أكثر من حساب بنكي لكل مترشح أو قائمة مترشحة أو حزب، ويتولى مد الهيئة ومحكمة المحاسبات بكشف في هذه الحسابات.
كذلك يؤكد القانون أنه يتعيّن على البنك المركزي التونسي ووزارة المالية اتخاذ الإجراءات اللازمة بما يحول دون التمويل الأجنبي للانتخابات والاستفتاء.
وتتولى محكمة المحاسبات إنجاز رقابتها على موارد ومصاريف كلّ قائمة مترشّحة أو مترشّح أو حزب، والمخصّصة للحملة، والتثبت من الالتزام بوحدة الحساب وإنجاز رقابتها على موارد الحساب البنكي الوحيد ومصاريفه. ونطبق الإجراءات المقرّرة بالقانون المنظّم لمحكمة المحاسبات على رقابة تمويل الحملة، للمترشّحين والأحزاب السياسية وقائمات المترشّحين ما لم تتعارض صراحة مع أحكام هذا القانون.
وتهدف رقابة محكمة المحاسبات على تمويل الحملة إلى التثبت من إنجاز كل المصاريف المتعلّقة بالحملة بالنسبة إلى المترشّحين أو الأحزاب السياسية أو القائمات المترشّحة من خلال الحساب البنكي الوحيد المفتوح للغرض والمصرّح به لدى الهيئة.