بعد توقعات متفائلة للطلب المستقبلي على الطاقة في نهاية العام الماضي 2019، أربك تفشي فيروس كورونا في الصين صناعة النفط والغاز والمستثمرين والتجار الدوليين على حد سواء، حيث هدد الفيروس النمو الاقتصادي في الصين التي عادة ما تقود الطلب على الطاقة والمعادن والسلع الأولية.
وتُعَدّ الصين المحرك الرئيسي للطلب العالمي على الغاز، حيث إنها تتمتع بنمو اقتصادي كبير، تواصل لسنوات طويلة كانت فيها الاقتصادات الغربية تعيش مرحلة من التباطؤ، قبل تفشي هذا الفيروس. كذلك فإن الصين من الدول الموقعة على اتفاقية المناخ في باريس، وهي كذلك من الدول الحريصة على التحول من استخدامات الفحم الحجري إلى الغاز بسبب التلوث الكبير الذي يهدد البيئة ويشكل طبقات كثيفة تغطي السماء في مدنها الكبرى مثل بكين وشنغهاي.
وتشير تقديرات معهد الأبحاث التابع لشركة الصين الوطنية للطاقة، إلى أن الطلب الصيني على الغاز الطبيعي سينمو خلال العام الجاري بنسبة 8.6 في المائة إلى 330 مليار متر مكعب. والصين من كبار الدول المستهلكة للغاز المسال بسبب عدم قربها من منتجين كبار للغاز تستطيع مدّ أنابيب منهم إلى أراضيها.
وكان نصيب الصين من نمو الطلب العالمي على الغاز الطبيعي المسال نحو 40 في المائة خلال السنوات الخمس الماضية، أي منذ عام 2015. وحسب البيانات الصينية الرسمية، تستورد الصين سنوياً نحو 82 مليون طن من الغاز المسال في العالم. وحسب معدلات النمو الاستهلاكي للغاز، كادت الصين تأخذ مكانة اليابان كأكبر مستورد للغاز المسال في العالم، لولا تفشي فيروس كورونا.
وعلى الرغم من التداعيات الكبرى التي تركها تفشي فيروس كورونا على الطلب الصيني على الغاز خلال شهر فبراير/ شباط الجاري، فإن مستقبل الطلب الصيني أو العالمي سيعتمد إلى درجة كبيرة على مدى قدرة الصين على السيطرة على فيروس كورونا والفترة التي ستأخذها في ذلك.
في هذا الصدد، يقول كبير محللي الغاز في شركة "وود ماكينزي" الأميركية، روبرت سيمز، في تقييمه لتداعيات فيروس كورونا على سوق الغاز العالمي، إن "من المستحيل في هذه المرحلة تقييم تداعيات الفيروس على سوق الغاز حالياً، لكن الملاحظ أن الفيروس أدى إلى خفض النمو الاقتصادي في الصين وإلى تراجع الطلب على الغاز في قطاعي الصناعة والطاقة، وهما من أكبر القطاعات المستهلكة للغاز في الصين".
لكن سيمز توقع عودة الطلب الصيني على الغاز إلى معدلاته الطبيعية مع عودة العمال والمصانع. إلا أن العديد من المؤشرات تظهر أنّ من غير المعروف حتى الآن متى ستعود المصانع للعمل بطاقتها الاعتيادية، ما يبقي عودة الطلب الصيني على الغاز إلى طبيعته في طيّ المجهول.
ومنذ يناير/ كانون الثاني الماضي، عطلت الحكومة الصينية أنشطة مصانع تساهم بنسبة تصل إلى 50 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الصيني، حسب تقديرات أخيرة صادرة عن مؤسسة "أوكسفورد إيكونومكس".
وكانت السلطات في عدة مقاطعات، غالبيتها مقاطعات صناعية مثل غوانغدونغ في الجنوب، قد طلبت من المصانع والشركات "غير الأساسية" إغلاق أبوابها. وعلى الرغم من العودة الجزئية في التاسع من الشهر الجاري، فلا توجد حتى الآن إحصائيات دقيقة حول نسبة العودة الفعلية للعمال للمصانع.
ويتوقع فريق محللي الطاقة في شركة "وود ماكينزي" الأميركية في تقرير حديث، أن يقود فيروس كورونا إلى تراجع الطلب الصيني على الغاز بنسبة 2 في المائة خلال العام الجاري في حال تمكُّن الصين من السيطرة على الفيروس بحلول إبريل/ نيسان المقبل. ولكنهم يقولون في توقعاتهم إنه في حال استمرار تفشي الفيروس لفترة أطول، فإن الطلب سيتراجع بنسبة 4 في المائة.
أما على صعيد الغاز المُسال، فإن فريق "وود ماكينزي" يتوقع أن يقود الفيروس إلى تراجع الطلب الصيني بكميات تراوح بين 3 إلى 6 ملايين طن سنوياً، أي بنسبة تراوح بين 4 إلى 6 في المائة. لكن هذا لا يعني أن نمو الطلب الصيني على الغاز خلال العام الجاري سيتجه نحو السالب، حيث إن التوقعات كانت تضع له النمو بنسبة 8.6 في المائة، وهي نسبة أكبر من التراجع.
وتشير أرقام "وود ماكينزي" إلى أن الطلب الصيني على الغاز المُسال قد ينمو خلال العام الجاري بنحو مليون طن سنوياً إلى 61 مليون طن سنوياً، وذلك في حال استمرار تفشي الفيروس لفترة أطول من إبريل/ نيسان، على الرغم من أن توقعات سابقة كانت تشير إلى أن نمو الطلب سيكون في حدود 8.6 ملايين طن.
ولتعويض التراجع الحالي في الطلب على الغاز بالصين، يتجه المنتجون إلى التركيز على السوق الأوروبية، خاصة سوق الشحنات الفورية، ولكن من المتوقع أن يؤدي هذا التحول إلى إغراق السوق الأوروبية، حيث تحولت العديد من شحنات الغاز المُسال من الصين إلى أوروبا خلال الشهر الجاري، ومن المتوقع أن يتواصل ذلك خلال الأشهر المقبلة لفترة قد تطول أو تنقص حسب قدرة الصين على السيطرة على الفيروس.
ويرى محللون أن الطلب على الغاز الطبيعي في أوروبا سيرتفع بعد ورود تقارير عن أن أكبر حقل للغاز في دول الاتحاد الأوروبي سيغلق في عام 2022، أي قبل 8 سنوات من العمر الافتراضي له بسبب مخاطر الزلزال. وهو حقل "غرونين جن" الهولندي الذي كان ينتج سنوياً في المتوسط نحو 54 مليار متر مكعب.
وهو ما يعني أن الإمدادات الأوروبية ستفقد في السنوات التالية لعام 2022 كميات ضخمة من الإمدادات المحلية للغاز الطبيعي، وذلك وفقاً لتقرير نشرته هذا الشهر شركة "أس آند بي غلوبال" المتخصصة في أبحاث الطاقة.
وربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلت أوروبا تصر على زيادة الإمدادات من الغاز الروسي رغم المعارضة الأميركية لمشروع "نورد ستريم 2" والعقوبات المشددة.
وترى شركة "أس آند بي غلوبال" أن أوروبا ستتحول خلال العام الجاري إلى التقليل من الغاز الطبيعي المنقول عبر الأنابيب إلى شراء صفقات الغاز الفورية في الغاز المُسال، بسبب رخص أسعار الغاز في السوق الفوري. ومن شأن ذلك أن يخفف حجم التراجع على الغاز المُسال في الصين على منتجي الغاز.