دروس من وحي طوابير البطاطس في مصر

11 نوفمبر 2018
الدستور: لكل مواطن الحق في غذاء صحي (فرانس برس)
+ الخط -

استنكر الجنرال السيسي شكوى المصريين من ارتفاع أسعار البطاطس، وقال في فعاليات منتدى شباب العالم بشرم الشيخ: "عاوزين تبنوا بلادكم وتبقوا دولة ذات قيمة ولا هندوّر عالبطاطس؟!... البطاطس بـ11 جنيه... وبـ12 جنيه... وبـ13 جنيه!! خلوا بالكم من بلدكم، البلاد ما بتتبنيش كده، البلاد بتتبني بالمعاناة وبالأسيّة".

افتراض التعارض بين بناء الدولة وتوفير أقوات الناس هو خلل أصاب رأس الدولة، أو خلط الجد بالهزل، لم يتجرأ على اقترافه المخلوع مبارك، وقد كان يُنعت بقلة العقل.

بل إن توفير الغذاء يجب أن يكون أهم أولويات بناء الدولة، والدستور ينص في مادته 79 على: "لكل مواطن الحق في غذاء صحي وكاف، وماء نظيف، وتلتزم الدولة بتأمين الموارد الغذائية للمواطنين كافة، كما تكفل السيادة الغذائية بشكل مستدام"، فهل قرأ الجنرال دستور الدولة؟!

قد تخيّر الناس بين البطاطس أو الأرز، لكن ليس من المنطق تخييرهم بين البطاطس أو بلد متحضر، وقد اختار 90% من الناس البطاطس، في استطلاع للرأي عبر موقع "فيسبوك" نقلته وكالة "رويترز"، ولا تلوم المواطن عندما يسخر من نظام يخيّر أبناءه بين البطاطس والدولة المتحضرة.

سورية تصدر

السيسي يهدد المصريين بمصير سورية والعراق، ولكن ألا تتعجب من إعلان تركيا استيرادها البطاطس من سورية بالتزامن مع الأزمة في مصر، وقد اعترف بذلك وزير الاقتصاد، نهاد زيبكجي، لموقع ترك برس، وذلك لمواجهة ارتفاع أسعارها في تركيا، وللمساهمة في تنمية المناطق المحررة ومعالجة الفقر فيها. بل إن إنتاج البطاطس في ريف حلب ودرعا لم يتوقف، بالرغم من القصف الروسي المجنون.

ألا يعلم الجنرال أن الأمم المتحدة أعلنت سنة 2008، وهي السنة التي شهدت أزمة الغذاء العالمية، "السنة الدولية للبطاطس"، واعتبرتها من الأغذية الأساسية الأكثر أهمية للبشرية، وأنها تلعب دورًا غير مسبوق في تدعيم الأمن الغذائي العالمي ومعالجة الجوع بين السكان ومحاربة الفقر لملايين المزارعين، ووصفتها في الكتاب الذي أصدرته بهذه المناسبة بأنها "غذاء المستقبل، والكنز الدفين"، وعقدت في أميركا اجتماعا لرابطة البطاطس الأميركية، وفي بلجيكا مؤتمرًا تحت عنوان "بطاطس أوروبا 2007" للنهوض بهذا المحصول الإستراتيجي؟! 

البطاطس هي سلعة غذائية أساسية للمصريين، وغيرهم من شعوب الأرض، بالإضافة إلى الخبز والأرز، لرخص سعرها وتوافرها معظم شهور السنة، ويستهلك المصريون منها تقريبًا 4 ملايين طن في السنة، بمعدل 40 كيلوغراما للفرد في العام، ما يفوق استهلاك الأرز الذي يصل إلى 38 كيلوغراما في العام، وتعد أحد أرخص مكونات الوجبة اليومية للمصريين، والتي تتكون في الغالب من الأرز والبطاطس.

مصر دولة لها مكانتها في سوق البطاطس الدولية، وتتصدر إنتاج البطاطس في أفريقيا، وتحتل المرتبة رقم 14 على مستوى العالم بمقدار 5 ملايين طن، وفق إحصائيات منظمة الفاو الصادرة في سبتمبر/ أيلول الماضي. والفلاح المصري يزرع البطاطس 3 عروات طوال السنة تقريبًا، مستغلًا المناخ المعتدل والفريد الذي تتمتع به مصر. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف وقعت أزمة بطاطس غير مسبوقة في عهد السيسي، بالرغم من المكانة الدولية لمصر في مجال الإنتاج والتصدير؟!

أسباب الأزمة

السبب الأول للأزمة هو: فتح باب تصدير البطاطس على مصراعيه منذ بداية العام من دون الالتفات إلى حاجة السوق المصري، وبلغت صادرات هذا العام أكثر من 750 ألف طن، وفق تقرير الإدارة المركزية للحجر الزراعي في سبتمبر الماضي.

وكشفت صحيفة الدستور المصرية، في يناير الماضي، عن خطاب موجه من الحكومة الروسية إلى الحكومة المصرية تطالبها بزيادة صادرات مصر من البطاطس بمعدلات تزيد عن الحالية بـ98%، نظرًا لاهتمام الجانب الروسي ببناء مخزونات واحتياطات استراتيجية من محصول البطاطس المصري في ظل العقوبات الغربية.

واستجابت الحكومة المصرية لطلب روسيا، حليف الجنرال السيسي، وزادت الصادرات، فحدثت الفجوة في السوق المصري وزادت الأسعار. وكشف موقع "أغريبزنس إنتيليجنس" عن أن زيادة واردات روسيا من البطاطس المصرية بمعدل 145% في يونيو/ حزيران الماضي حقق وفرة وانخفاضا في الأسعار في الأسواق الروسية، على حساب المستهلك المصري بلا شك، لا سيما أن روسيا قامت، في الفترة من 2013 إلى 2017، ببناء مخازن حديثة بسعة 1.5 مليون طن، لزيادة تخزين البطاطس.

وحتى نستفيد من أزمة البطاطس ونضمن عدم تكرارها، علينا أن نعي خطورة الاهتمام بتصدير الغذاء المحلي وتلبية احتياجات الدول الأجنبية على حساب الأولوية الوطنية واحتياجات السوق المصري.

السبب الثاني للأزمة: تراجع إنتاجية الفدان من البطاطس من 20 طنا قبل سنوات إلى 14 طنا، بانخفاض قدره 30%، بسبب عجز المزارعين الفقراء عن شراء الأسمدة واستخدامها بالكميات الموصى بها نتيجة رفع الحكومة أسعارها إلى الضعف، ما يؤكد ضرورة تطبيق المادة 29 من الدستور، والتي تنص على دعم المزارعين وتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعي بأسعار منخفضة.

السبب الثالث للأزمة: تذبذب المساحات التي يزرعها الفلاحون من سنة إلى أخرى، فتزيد المساحة في سنة، وبالتالي يزيد الإنتاج، فتنخفض الأسعار نتيجة زيادة العرض، وتزيد خسائر المزارعين. وفي العام التالي يتراجع عدد كبير من المزارعين عن زراعة البطاطس بسبب الخسائر السابقة، فيتراجع الإنتاج، وترتفع الأسعار نتيجة انخفاض العرض، وهكذا.

وهو ما يفسر انخفاض الإنتاج وارتفاع الأسعار في هذا التوقيت، حيث أحجم المزارعون عن التوسع في المساحة هذا العام بسبب الخسارة التي وصلت إلى 7 آلاف جنيه لكل فدان في الموسم السابق، 2016 /2017، نتيجة زيادة المساحة ووفرة الإنتاج الذي أغرق السوق وانخفض السعر إلى 900 جنيه للطن في مقابل 3500 جنيه للطن في 2015.

ولحل هذه المشكلة يجب أن تعود الدورة الزراعية، والزراعة التعاقدية، التي تضبط المساحات اللازمة لسد الاحتياجات الاستهلاكية للدولة وتغطي طلبات التصدير بدون إغراق أو عجز في الإنتاج.

معالجة أمنية

لم تعترف الحكومة بأخطائها، واعتمدت المعالجة الأمنية في مواجهة الأزمة، وبدأتها بإطلاق أزرع الإعلام الموالي لها في شيطنة تجار البطاطس واتهامهم باصطناع الأزمة، بتجميع وتخزین البطاطس وحجبھا عن التداول في الأسواق واحتكارها بغرض رفع أسعارها، وهي التهم التي لم ينص عليها قانون مصري من قبل. وركزت الحملة على أكبر مستوردي تقاوي البطاطس ومزارعيها ومصدريها واتهمته بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.

ثم أعقبت الحكومة الحملة الإعلامية بحملة أمنية تحت إشراف هيئة الرقابة الإدارية ومكونة من ثلاث وزارات هي الداخلية والتموين والزراعة، وهاجمت ثلاجات تخزين وتبريد البطاطس في المحافظات، وأعلنت وزارة الداخلية عن أن هذه الإجراءات تتم "تحت رعایة السید رئیس الجمھوریة"، وفق الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية، في 27 أكتوبر/ تشرين الأول.

وبالرغم من أن البطاطس ليست من السلع التموينية ولا تخضع للتسعيرة الجبرية، فقد أعلنت الداخلية عن أن مصادرة البطاطس تأتي في إطار "مكافحة الجرائم التموينية"، وهو ادعاء لا تجده في دول الموز.

واشتركت قوات من الجيش والشرطة في تنظيم الأعداد الكبيرة من المصريين في طوابير للحصول على 5 كيلوغرامات من البطاطس في ميادين القاهرة والمدن الرئيسية بالمحافظات وأمام أقسام الشرطة ومديريات الأمن. وفي ظاهرة غير مسبوقة، استخدمت وزارة الداخلية الشرطة النسائية في تنظيم طوابير النساء، بغرض الحصول على اللقطة وكسب السبوبة.

وأعلنت وزارة الداخلية عن توفير البطاطس وبيعها من خلال منافذ ثابتة ومتنقلة تابعة لمديريات الأمن في القاهرة والمحافظات بسعر 6 جنيهات للكيلو، تحت عنوان "كلنا واحد". ودشنت وزارة التموين مبادرة تحت عنوان "خضار بلدنا"، وباعت فيها البطاطس بسعر 9.25 جنيهات للكيلو.

الفارق في السعر لدى وزارة التموين يصل إلى 3.25 جنيهات في الكيلو، بزيادة 53% عن السعر الذي تبيع به الداخلية، وهي زيادة كبيرة، لا سيما أن البطاطس المعروضة في الجهتين تمت مصادرتها من التجار في وقت واحد، ما يدل على الفساد والتربح على حساب أصحاب البطاطس، في ظل قهر أمني فاضح.

فشل ذريع

ادعت الحكومة النجاح في حل الأزمة وتراجع أسعار البطاطس إلى 6 جنيهات بفضل تدخّل وزارة الداخلية، ولكن الأسعار عاودت الارتفاع منذ يوم الإثنين 5 نوفمبر/ تشرين الثاني، وزادت في سوق الجملة إلى 8 جنيهات للكيلو، وفق البيانات الرسمية لموقع سوق العبور بالقاهرة، أكبر أسواق الجملة للخضروات والفاكهة في مصر، وتراوح السعر في أسواق التجزئة بين 10 و11 جنيها للكيلو، بزيادة 75% في يوم واحد، وهو ما أكده السيسي في خطابه.

وانتشر في الإعلام المصري سؤال: لماذا عاودت أسعار البطاطس الارتفاع من جديد؟ ما يعني فشل النظام في استخدام الحل الأمني والقفز على قواعد السوق في مواجهة الأزمات الاقتصادية.

كارثة أخرى اقترفتها الشرطة، وهي أنها صادرت البطاطس المخزنة لأغراض التقاوي والمجهزة للزراعة في العروة القادمة، المحيرة، والتي تتم زراعتها في نوفمبر/ تشرين الثاني، ما يعني تراجع المساحات المزروعة في هذه العروة، وبالتالي انخفاض إنتاج البطاطس في نهاية ديسمبر/ كانون الأول القادم، لتستمر الأزمة، وقد يضطر النظام إلى استيراد البطاطس من الخارج كما فعل مؤخرًا مع الطماطم التي استوردها من الأردن في ظل ارتفاع أسعار.
المساهمون