غزو تركيا من ليرتها

10 يناير 2017
تهاوي الليرة التركية (Getty)
+ الخط -

من غير الطبيعي ربما، ربط سعر صرف عملة أي بلد بقوة اقتصاده، ولعل في سعر صرف اليوان الصيني والين الياباني، مقابل العملات الرئيسية دليل، ربما يعززه ارتفاع صرف الدينارين، الأردني والكويتي أيضاً.

لكن، من الانحياز، تجاهل تراجع سعر صرف عملة استقرت سنوات، وتأثير عدم استقرارها على الاقتصاد المحلي والوضع المعيشي، أو حتى على جذب الاستثمارات، التي عادة ما تقيّم الاقتصاد، من خلال "ترمومتر" البورصة، واستقرار سعر العملة، فضلاً عن معايير أخرى تتعلق بالأمن والبيئة الجاذبة، من قوانين وقوة شرائية وغيرها.

قصارى القول، دخلت الليرة التركية في نفق التراجع، منذ الانقلاب الفاشل الذي ضرب تركيا يوليو/تموز العام الفائت، لتصل إلى "عقدة" لم يفلح صناع السياسة النقدية بتركيا، فكها حتى اليوم لتخسر الليرة التركية أكثر من 25% من قيمتها، خلال العام الفائت، وأكثر من 53% خلال عامين، في حين لم يزد سعرها عن 2.34 مطلع عام 2015.

ما يلح بطرح السؤال عن السبب الذي أوصل التضخم بالبلاد لنحو 9% الشهر الفائت، وعدم نجاعة المسكنات التي استخدمتها تركيا، سواء بتحريك أسعار الفائدة المثبتة منذ أعوام أو حملة حماية ودعم الليرة التي بدأها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان بنفسه، فحوّل كامل مدخراته من العملات الصعبة إلى الليرة التركية، ضمن حملة فاقت ضخ عشرة مليارات دولار بالسوق، الشهر الفائت.

كما لم تفلح في إبرام العديد من العقود مع عدد من الدول، بالليرة بدل الدولار، أو انتقال العملة التركية، مطلع العام الجديد إلى واجهة الأسواق العالمية من خلال إضافتها إلى نظام التجارة التبادلية الصيني، بعد أن خفضت الصين حصتها من الدولار في سلة التجارة الخارجية من 26.4% إلى 22.4%، لتضيف 11 عملة أخرى، من بينها الليرة التركية.
على الأرجح، هناك أسباب اقتصادية أثرت على سعر صرف الليرة التركية، ربما بمقدمتها تراجع الاستثمار الأجنبي، خلال العام المنصرم، بأكثر من 35% وتراجع السياحة بنحو 41%. هذان السببان أثرا بلا شك على حجم المعروض الدولاري بالسوق التركية.

ليأتي لاحقاً أيضاً، تخفيض تصنيف تركيا الائتماني، ومن ثم تراجع الصادرات التركية، العام الفائت، بنحو 0.84% عن عام 2015، إذ لم تزد قيمة الصادرات عام 2016 عن 142 مليار دولار.

ولكن، وفق المنطق الاقتصادي، ليست هذه الأسباب وحدها، مبرراً لتهاوي سعر العملة التركية على النحو الذي رأيناه، وخاصة أن لا مخاطر مصرفية أو مالية تستوجب التخوف، سواء لما يتعلق بالاحتياطي النقدي الأجنبي بالمصرف المركزي التركي الذي يزيد عن 122 مليار دولار أو لما يتعلق بكفاية رأس المال بالمصارف التركية، آخذين بالاعتبار نسبة النمو التي لم تزل الأعلى أوروبياً وعجز الموازنة الذي لا يزيد عن 2%.

ما يجعل السبب السياسي والنفسي، ربما الأهم، بواقع دخول تركيا بحروب الجوار "سورية والعراق" وحداثة عودة علاقتها التي قطعت لنحو عام مع شريكها الرئيسي، روسيا.
يضاف إلى كل ذلك، أسباب داخلية مهمة، تتعلق بالتفجيرات الإرهابية التي ضربت معظم المدن التركية، ما استدعى تمديد حالة الطوارئ للمرة الثالثة، وما يقال عن تخوف الأتراك من صراع سياسي بين الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" والأحزاب المعارضة "الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطية"، بعد بدء البرلمان التركي أخيراً، بمناقشة تعديل مواد الدستور للتحول بعد عام 2019 للنظام الرئاسي.

نهاية القول، ضمن هذا الواقع الاقتصادي والسياسي، الداخلي والخارجي، والذي يمكن أن يزيد من الضغط على الاقتصاد التركي وعلى عملته مزيداً من التراجع، ترى ما هي الحلول الممكنة والتي ستتخذها تركيا، لتحافظ على استقرار الليرة، إن لم نقل استعادة سعرها لما قبل عامين، إذ لا يمكن ربط كل ما يجري بـ "المؤامرة" على الرغم من وضوح الحرب على تركيا، سواء من قبل واشنطن أو بعض الدول الأوروبية، أو، وهو الأهم والأخطر، بقايا "الكيان الموازي" داخل تركيا أو خارجها؟

أعتقد أن التشبث بتثبيت سعر الفائدة، واعتبار رفعها يؤثر على الاستثمارات، رأي قابل للنقاش اليوم، إذ إن للأداة النقدية دوراً مهماً في سحب جزء من فائض السيولة التركية من السوق، خاصة بعد تراجع الاستثمارات وربما عدم وصول أرباح المشاريع الصناعية والعقارية إلى مستوى أسعار الفائدة المصرفية.
كما أن البحث عن "الدولار" إن عبر السياحة أو الاستثمار، دور أساسي في تقليل الطلب على العملات الرئيسية، في سوق بدأ المتعاملون يشككون بثبات سعر ليرتهم.
ولعل في بعض الإجراءات التي من المستغرب أن تركيا لم تتخذها، كمنح الفيزا التي فرضتها العام الفائت على السوريين والعراقيين، إن لم نقل توقيف منح الإقامات السياحية لمن هم على أراضيها، لتأمين عوائد دولارية كبيرة، يمكن أن تسد ولو بعض الطلب بالسوق النقدية التركية.
فإن قلنا أن أكثر من مليون سوري يسعى للإقامة السياحية ولا يحصل عليها، على الرغم من دفعه أكثر من 1500 دولار لمكاتب الوساطة والسماسرة، وأضعافهم يأملون بدخول تركيا لغايات سياحية وتجارية، ويدفعون أكثر من 2000 دولار، وأيضاً لا يوفقون.
ففي هذين الجانبين عائدات تضمن استقرار سعر الليرة، إن لم نأت على إنفاق الداخلين لتركيا وما سيصدرونه منها، كما كانت العادة قبل فرض الفيزا والخوف، ربما غير المبرر من السوريين والعراقيين.
إن الاستمرار بمعالجة "مرض الليرة" بالمسكنات والخطابات، قد يحقق للمتربصين بتركيا وحلمها عام 2023، ما لم يفلحوا به عبر الانقلاب الفاشل ومحاولات رميها إلى مستنقع سورية وأتون العراق والاحتراب مع روسيا البوتينية.

المساهمون