"ما تيجي نتكلم" ...عن القروض في مصر

15 نوفمبر 2017
اجتهدت الحكومة المصرية في تنويع مصادر الاقتراض (Getty)
+ الخط -
في عام 2012، خسر بنك جي بي مورغان تشيس الأميركي حوالى 6.2 مليارات دولار في مجموعة من العمليات التي قام بها أحد موظفيه في أسواق المشتقات Derivatives، فتمّ إيقاف الموظف ومديره عن العمل، وتحويلهما للتحقيق بعد اتهامهما بتهمٍ جنائية.

واعترف البنك بانتهاك القوانين المنظمة للتعامل في الأوراق المالية، ووافق على دفع غرامات تزيد عن المليار دولار. تم التحقيق في الواقعة بمعرفة بنك الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي"، وهيئة الأوراق المالية والبورصة SEC، وأيضاً المباحث الفيدرالية، كما تم استجواب أكثر من ألف شخص ممن لهم صلة بالموضوع، وشكلت لجنة في مجلس الشيوخ الأميركي لدراسة القضية.

التحقيق تم بهذه الكثافة، وتحمل المضاربان المخطآن غرامات مادية كبيرة، كما تأثرت المكافآت التي حصل عليها رئيس البنك حينئذٍ، على الرغم من أنهما كانا يعملان في إطار الصلاحيات الممنوحة لهما، ويتعاملان في منتجات أقر البنك التعامل فيها. لكن الخطأ الرئيسي الذي ارتكباه، ومعهما رئيس البنك، كان في إخفاء ثلاثتهم لبعض الخسائر وقت حدوثها.

وأدان التقرير الصادر من مجلس الشيوخ الأميركي وقتها البنك الذي ضلل المستثمرين وأخفي خسائره عن المراجعين الداخليين والمراقبين الخارجيين.

وكان رئيس البنك يرد على الصحافيين في بداية المشكلة مقللاً من حجمها، واصفاً إياها بأنها مجرد زوبعة في فنجان، كما حثهم أكثر من مرة على "ألا يستمعوا لكلام أحدٍ غيره في هذا الموضوع"، وطالبهم في إحدى المرات بأن "يتوقفوا عن الكلام فيه".

تمت التحقيقات، وفرضت العقوبات والغرامات، رغم أن الموضوع يخص بنكاً خاصاً! تعاملت الإدارة الأميركية مع القضية بكل جدية رغم أن الموضوع يخص أموال المودعين المؤمن عليها، ورغم أن البنك يحقق كل عام أرباحاً تفوق تلك الخسائر، وأن حاملي أسهم البنك لن يتجاوز عددهم بضعة آلاف، إلا أن الأمر لم ينته إلا بعرضه على ممثلي الشعب في مجلس الشيوخ، والاستماع إلى رأيهم.

لكن في الناحية الأخرى من الكوكب، حصلت الحكومة المصرية على الدفعة الأولى من قرض صندوق النقد الدولي، بمبلغ يقدر بحوالي 2.75 مليار دولار في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، ولم يتم عرض الأمر على مجلس النواب إلا بعدها بأربعة شهور كاملة، فيما يمثل انتهاكاً صريحاً للدستور! حيث تحظر المادة 127 على الحكومة الاقتراض، أو الحصول على تمويل، أو الارتباط بمشروع غير مدرج في الموازنة العامة المعتمدة، إلا بعد موافقة البرلمان، وهو ما لم يحدث في قرض الصندوق.

وفي محاولته لنفي شبهة عدم الدستورية عن الاتفاقية، قال وزير المالية عمرو الجارحي إن الاتفاق مع الصندوق ليس قرضاً بالمعنى المعروف، وإنما هو برنامج إصلاح اقتصادي، يسمح بالحصول على تسهيلات مالية تسدد على عشر سنوات! وهو كلام مؤسف، من مسؤول يحاول خداع من يُفترض أنه يعمل لصالحهم، ومع ذلك، فقد اجتهدت الحكومة، ممثلة في وزارة المالية، ووزارة الاستثمار والتعاون الدولي، والبنك المركزي، في تنويع أشكال الاقتراض، حتى يتم بالدليل الواضح إثبات أن حجة وزير المالية داحضة، وكأنهم يقولون لنا "نعم نخالف الدستور.... فهل لكم شوقٌ في شيء؟".

تم الاتفاق على تجديد ودائع دول الخليج لدينا، واقترضنا من البنك الأفريقي للتصدير والاستيراد، وأبرمنا اتفاقية إعادة شراء Repo (وتعني اقتراض مقابل رهن بعض الأوراق المالية) مع نفس البنك، وطرحت الحكومة سندات بالدولار وباليورو، وتستعد لطرح سندات أخرى في بداية عام 2018، كما وقعت، ثم جددت، اتفاقية مبادلة عملات مع الصين، وهي شكل آخر من أشكال الاقتراض، وكل ذلك الاقتراض الخارجي دون الرجوع إلى مجلس النواب.

أما على مستوى الاقتراض المحلي، فحدث ولا حرج، حيث يتم أسبوعياً اقتراض ما يقرب من 12 إلى 13 مليار جنيه في صورة أذون خزانة بالجنيه المصري، ويتم أحياناً إصدار أذون خزانة بالدولار واليورو، في غيبة تامة لأي نوع من المشاركة من مجلس النواب.

لا نحاول هنا خداع أنفسنا، بتصوير الأمر كما لو كان لدينا مجلس للنواب يقوم بدوره على أي وجه، ونعلم جيداً أن احتمالات رفض المجلس الموجود لتلك القروض تكاد تكون منعدمة، وأن الأرجح هو إقرارها.

كما لا نظن أن كثيرين من أعضاء المجلس الموقر على دراية بأنواع الاقتراض المختلفة التي لجأت إليها حكومتنا، أو أن من هم على دراية بها لديهم الوقت الكافي، أو الرغبة، في مناقشة تلك الأمور "البسيطة"، أو أن من لديهم الدراية والوقت والرغبة تتاح لهم الأدوات التي تسمح لهم بتحديد مشروعية الحصول على تلك القروض من عدمها.

كما لا يخفى على أحد والحال كذلك، أن عرض تلك الاتفاقات/القروض على مجلس النواب كان أمراً يسيراً، وأن جلسة واحدة كانت كفيلة بالحصول على كل الموافقات المطلوبة، لكن ذلك كان سيتعارض بصورة واضحة مع استراتيجية النظام الحالي في التعامل معنا، كالأنعام التي يلقي إليها طعامها بين الحين والآخر، على أن يدير هو أمورنا دون محاسبة من أي نوع.

الدين الخارجي لمصر بلغ 80 مليار دولار، كما تجاوز الدين المحلي مبلغ 3.5 تريليونات جنيه، وهما أعلى مستوى لهما في تاريخ مصر الاقتصادي، وأكثر من نصف هذه القروض تم اقتراضها أو تجديدها بعد إقرار الدستور الحالي، ودون الحصول على الموافقات اللازمة من ممثلي الشعب.

وأعلنت الحكومة قبل أسبوع أن استراتيجيتها في التعامل مع تلك القروض، تقوم على تحويلها من قصيرة الأجل إلى طويلة الأجل، وهو ما يجعلنا، حقيقةً، نتساءل، بكل جدية، اذا ما كان الهدف هو تحسين موقف السيولة الحالية للدولة، أم تأجيل استحقاق تلك القروض لمواعيد يتوقع فيها من قام بالاقتراض، أو من أمره بذلك، ألا يكون من الأحياء، حتى لا تتم محاسبته؟
أطال الله في عمرهم أجمعين.




المساهمون