يتسع نطاق الإضرابات العمالية والاحتجاجات الاجتماعية في تونس، لتطاول قطاعات حيوية في الدولة، ما ينذر بمزيد من الخسائر للاقتصاد العليل بالأساس، بينما يشير قائمون على اتحادات عمالية إلى أنه لم تعد أمامهم سبل لنيل حقوقهم وتحسين وضعهم المهني والمعيشي المتردي، إلا بالضغط عبر الإضرابات.
وبعد هدنة وجيزة، عادت الإضرابات بقوة خلال الأسابيع الأخيرة، لتشمل عمال نقل الوقود، وطياري الخطوط الجوية، إنتاج الفوسفات، الصحة، التعليم، وقطاعات أخرى، ما أربك الخدمات المقدمة للمواطنين.
وإضراب عمال نقل الوقود، الذي بدأ يوم الخميس الماضي لمدة ثلاثة أيام، هو الأحدث في سلسلة الإضرابات، وفي مقابل مطالب العمال بتحسين الأجور والإفراج عن المستحقات المتراكمة لدى الحكومة، لاسيما في ظل موجات الغلاء التي لا تتوقف منذ عدة سنوات، يرى مسؤولون أن الإضرابات تضيف المزيد من الخسائر إلى فاتورة مفتوحة منذ قرابة ثماني سنوات، من دون أن يتم بعد وضع بند في ذيلها يشير إلى وصولها إلى حد الحساب النهائي.
وبحسب رئيس منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (غير حكومي)، رمضان بن عمر، فإن المنتدى رصد على امتداد العام الماضي 2018 نحو 9356 تحركاً احتجاجياً في مختلف محافظات البلاد، مشيرا إلى أن 17 في المائة منها فقط تسببت في تعطيل العمل وشل أنشطة اقتصادية.
وقال بن عمر لـ"العربي الجديد" إن أغلب التحركات الاحتجاجية والإضرابات التي يرصدها المنتدى تؤثر على القطاعات الخدمية الحكومية، خاصة الصحة والتعليم والنقل، مضيفا أن "ضعف المعالجة الحكومية للملفات الحساسة ذات الطابع الاقتصادي يساهم في تعكير المناخات الاجتماعية".
وبحسب آخر البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية، بلغ عدد الإضرابات القانونية في القطاعين الخاص والعام خلال الأشهر الستة الأولى من العام الماضي 119 إضرابا، 89 في المائة منها في القطاع الخاص بمعدل 106 إضرابات.
ويعد قطاع الفوسفات أكبر المتضررين، بعد أن فقد أكثر من 60 بالمائة من عائداته السنوية، ما يعادل 1.5 مليار دولار من الأرباح سنوياً في السنوات الأخيرة.
وطاولت الاحتجاجات قطاع النقل الجوي، على أثر إضراب مفاجئ لطياري الخطوط التونسية، منتصف إبريل/نيسان الماضي، ما تسبب في إرباك حركة النقل الجوي وتوقف عدد من الرحلات لعدة أيام.
ويمثل إضراب طياري الخطوط التونسية، بحسب الخبير الاقتصادي بلحسن الزمني، صافرة إنذار لإمكانية تدهور قطاع حيوي، خاصة مع تزامن الإضراب مع بداية موسم سياحي.
وقال الزمني لـ"العربي الجديد" إن الإضرابات تعرف نقلة من حيث الشكل والشرائح المشمولة بالتحركات الاحتجاجية، بسبب تأخر الحكومة في معالجة ملفات مهمة على غرار إعادة هيكلة شركة الخطوط التونسية.
وأضاف الزمني: "غضب الطيارين الذي تسبب في إرباك الحركة الجوية على مدار ثلاثة أيام مرده سوء ظروف العمل التي يشتغلون فيها وضعف أجورهم"، مؤكداً "أن شركة النقل الجوي الحكومية بصدد فقدان جزء كبير من كفاءاتها البشرية بعد موجة الهجرة في صفوف الطيارين وكبار المسؤولين الفنيين".
لكن الرئيس المدير العام للخطوط التونسية، إلياس المنكبي، وصف في تصريح لوكالة الأنباء التونسية، يوم السبت الماضي، مطالب الطيارين بـ"التعجيزية"، مؤكداً أن الشركة لا تقدر في وضعها الحالي الصعب على تنفيذها.
وباتت الإضرابات بالخطوط الجوية التونسية تلقي بظلال سلبية على النشاط السياحي الذي تعول الحكومة كثيراً على عودة النشاط إليه وتحسن عائداته.
وقالت كل من جامعتي الفنادق ووكالات السفر في بيان مشترك لهما، في مارس/ آذار الماضي، إنه "رغم اقتراب الموسم السياحي لا توجد مؤشرات إيجابية خلال الأسابيع الأخيرة على تحسن خدمات شركة الخطوط التونسية، وخاصة أن 40 في المائة من أسطول الناقلة الجوية الحكومية رابض منذ أشهر، ما يعوق إمكانية وصول 5 آلاف مسافر في اليوم إلى تونس".
وأضاف البيان أن "الرحلات على متن الخطوط التونسية تسجل تأخيراً يومياً، إضافة إلى إلغاء العديد من الأسفار على المستوى الدولي، وضمن الخطوط الداخلية لوجهات تونس". وسجلت الخطوط التونسية معدّل تأخير قياسياً بلغ 48 ساعة أحياناً، ما يجبر المسافرين على الانتظار في المطارات لساعات طويلة.
وتعمل تونس على خطة تأهيل شاملة في القطاع السياحي، بعد الحصول على وعود من كبار متعهدي الرحلات باستعادة الأسواق الأوروبية، ولا سيما البريطانية منها والألمانية، وزيادة تدفق السيّاح نحوها هذا العام إلى حدود 9 ملايين سائح، مقابل 8 ملايين في 2018.
وقال مسؤول كبير في مجلس الوزراء لـ"العربي الجديد"، إن كل يوم يشهد إضرابا عاما يكبد الدولة خسائر بنحو 100 مليون دينار (33 مليون دولار).
ورغم أن مبررات الإضراب تختلف من قطاع إلى آخر، إلا أن خبراء اقتصاد حذروا من تداعيات اتساعها على النمو الاقتصادي للدولة والذي لم يتجاوز 2.6 في المائة العام الماضي 2018.
وكانت الغرفة النقابية لأصحاب المخابز، قد دعت إلى إضراب في إبريل/نيسان الماضي، في إطار تحرّك احتجاجي لتمكين المهنيين من مستحقات من الدولة لم يحصلوا عليها منذ نحو سبعة أشهر، لكنها عادت وتراجعت عن تنظيم الإضراب. وتقع ولاية تونس في الشمال الشرقي للدولة، وتشمل تونس العاصمة وولايات أريانة وبن عروس ومنوبة.
وغالبا ما تعالج الحكومة الإضرابات ووفق العمل باللجوء إلى اقتطاعات من أجور الموظفين المضربين، غير أن هذه الآلية لم تعد تجدي نفعاً أمام إصرار شريحة من الموظفين على نيل حقوقهم الاجتماعية وتحسين وضعهم المهني والمعيشي، وفق نقابيين.
وقال الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل سامي الطاهري لـ"العربي الجديد" إن "الإضرابات ليست إلا تعبيرا عن انسداد أفق التفاوض بين المؤسسات وموظفيها"، مشيرا إلى أن المركزية النقابية لا تدعم إلا الإضرابات القانونية والتي يسبقها إشعار بتنفيذ الإضراب.
وأضاف الطاهري أن "اتحاد الشغل يسعى إلى احتواء الأزمات الاجتماعية، عبر مفاوضات تحسين الأجور والتصدي لسياسات اقتصادية تسببت في إفقار التونسيين ولا سيما من الطبقة المتوسطة".
ويواجه التونسيون ضغوطا معيشية متزايدة في ظل الغلاء وتنفيذ الحكومة إجراءات وفق برنامج اقتصادي متفق عليه مع صندوق النقد الدولي تشمل رفع أسعار الطاقة وزيادة الضرائب وتقليص كتلة الأجور.
وبلغ معدل التضخم، خلال يناير/ كانون الثاني نحو 7.1%، وفق بيانات صادرة عن البنك المركزي في فبراير/ شباط الماضي.
وكشفت بيانات صادرة عن المعهد الوطني للاستهلاك الحكومي، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عن ارتفاع الاستدانة لدى الأسر بنسبة 117% منذ عام 2010 وحتى منتصف العام الماضي 2018، لتبلغ 23.1 مليار دينار (8.5 مليارات دولار)، إذ أصبح ربع العائلات يدفع أقساطاً شهرية للمصارف.