تشير الموازنة العامة للدولة للعام المالي الحالي 2017-2018، والتي أعدتها الحكومة المصرية ووافق عليها البرلمان قبل أقل من عام، إلى أن إجمالي استخدامات (أي مصاريف) الدولة في هذا العام ستكون حوالي 1.49 تريليون جنيه، أو 1490 مليار جنيه.
وفي المقابل، فإن الموازنة نفسها تشير إلى أن إجمالي الإيرادات التي يمكن للدولة أن تتحصل عليها هذا العام هو حوالي 852 مليار جنيه، وهذا يعني أن الحكومة المصرية، لا تتحصل إلا على حوالي 57% فقط مما تنوي إنفاقه خلال العام المالي، الذي بدأ أول يوليو / تموز 2017، وينتهي في آخر يونيو / حزيران 2018، وبصافي عجز يقدر بحوالي 43% من نفقاتها، وبقيمة تقدر بحوالي 638 مليار جنيه.
كما أشارت الموازنة أيضاً إلى أن بند فوائد الدين (فوائد فقط دون أصل المبلغ) يستنزف حوالي 381 مليار جنيه، وبنسبة تقدر بحوالي 45% من إجمالي الإيرادات المتاحة للدولة، وأكثر قليلاً من ربع المبالغ المقدر استخدامها هذا العام. هذا ما يظهر في موازنة الدولة، لكن حقيقة الأمر أسوأ من ذلك، حيث تشير أغلب التقديرات إلى ارتفاع هذا المبلغ بحوالي عشرة بالمائة على الأقل قبل انتهاء العام المالي الحالي.
ولما كانت أغلب بنود الاستخدامات في موازنة الدولة المصرية مما لا يسهل التحكم فيه، فإن أي زيادة في الاستخدامات، في بند مثل بند فوائد الديون، أو عند ارتفاع أسعار البترول عن مستوى 55 دولاراً الذي قدرته الحكومة كمتوسط للعام المالي الحالي، واضطرارها لتحمل مبالغ أكبر لتوفير الدعم للوقود، أو عند ارتفاع متوسط سعر الدولار مقابل الجنيه عن السعر الموجود في الموازنة، والمقدر بـ16.5 (لم نقترب منه مرة واحدة خلال الشهور الثمانية التي مضت من العام المالي الحالي)، واضطرار الحكومة لتحمل مبالغ أكبر لتوفير الدعم لرغيف الخبز، يتم تمويلها حسماً من المبالغ المخصصة للاستثمار في التعليم والبحث العلمي، والصحة، وربما الصرف الصحي أيضاً.
وحيث إن الدستور المصري الحالي ينص على أن يتم توجيه 10% على الأقل، من إجمالي استخدامات الدولة، إلى الاستثمار في التعليم والبحث العلمي والصحة، فقد عبرت عن دهشتي إلى أحد الأصدقاء من المسؤولين في وزارة المالية، بسبب عدم التزام الحكومة بذلك النص الدستوري.
الرجل، بعد ابتسامة عريضة استمرت لفترة، وكأنه يستعجب من قصة "عدم الالتزام بالنص الدستوري" تلك، فاجأني بأن جزءاً كبيراً مما يتم إنفاقه في سداد فوائد الديون، يتم تصنيفه تحت بند "تكلفة الحصول على قروض توجه للاستثمار في التعليم والبحث العلمي والصحة"، ولا عجب إذا أن يكون هذا هو مستوى التعليم الذي يحصله أبناؤنا، والعلاج الذي يتاح لآبائنا، والبحث العلمي الذي يطور الحياة من حولنا.
ومن ناحية أخرى، فإن مصيدة الديون التي وقعنا فيها، والتي تضاعف حجمها، وبالتالي الفوائد المستحقة عليها، في السنوات الأخيرة، لا يمكن أن تستمر إلى مالا نهاية.
ولا يبدو أننا، حتى هذه اللحظة، قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح الذي يخرجنا من تلك المصيدة، أو يقلل من خسائرنا فيها. فلو افترضنا أن احتياجات الدولة الطبيعية لا تزيد، بمعنى أن الإيرادات والاستخدامات تزيد بنفس القدر كل عام، فإن ذلك كفيل بزيادة العجز، وبالتالي زيادة الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
فالديون تزيد بمعدل الفائدة كل سنة، وتقدر الحكومة تكلفة الدين الحالي (متوسط معدل الفائدة على إجمالي القروض) في الموازنة بأقل من عشرة بالمائة، والرقم الصحيح يتراوح بين 13%-15%.
وعلى الجانب الآخر، فإن معدلات نمو الاقتصاد المصري تتراوح بين 3% و6% في السنوات العشر الأخيرة، وهو ما يعني ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي بحوالي 10% كل عام، الأمر الذي لن نستطيع تحمل تبعاته في المستقبل القريب.
لا يمكن الاستمرار في هذه الدوامة. فالدين العام المصري آخذٌ في ازدياد، كرقم مطلق أو كنسبة من الناتج المحلي، والفوائد المستحقة على الديون، والتي تجاوت 400 مليار جنيه هذا العام، بمتوسط يومي يزيد عن المليار جنيه في كل يوم من أيام السنة، بما فيها أيام الجمعة والسبت وكل الأعياد والعطلات الرسمية، تضغط على الموارد (المحدودة) المتاحة، وتسحب من نصيب الاستثمار، أو تضطر الحكومةَ لزيادة الضرائب، وكلاهما يحد من فرص النمو المتاحة للبلد، وبالتالي من فرص زيادة دخول الأفراد وارتفاع مستوى معيشتهم.
في الولايات المتحدة الأميركية، لا تستطيع الحكومة الاقتراض فوق مستوى معين من القروض، يتم تحديده كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. ولو احتاجت الحكومة للاقتراض أكثر منه، لابد من الحصول على موافقة الكونغرس. ولو لم يقتنع الكونغرس بالإنفاق المطلوب الاقتراض من أجله، يتم إغلاق الحكومة!
وفي أوروبا والدول المتقدمة، تفرق الحكومات في ميزانياتها بين الديون "الجيدة"، التي ترغب الحكومة في الحصول عليها لتعزيز النمو، والديون "السيئة" التي تستخدم للأغراض الاجتماعية (كالدعم) وغيرها من النفقات المتكررة، مثل الأجور والمعاشات الحكومية.
كما تعمل الحكومات على الربط بين القروض التي يتم الحصول عليها واستخداماتها، بحيث يكون واضحاً للجميع، أي قروض تم توجيهها إلى الإنفاق الذي يسهم في الاستثمار ويزيد من القدرة الإنتاجية، من أجل تحقيق إيرادات مستقبلية، وأيها تم الحصول عليه لمعالجة النفقات اليومية، بما فيها الفوائد على الديون القديمة.
وزير الخزانة الأسترالي عند عرضه للموازنة العامة هذا العام، أوضح التقسيمات السابقة، وقال إنه يفعل ذلك حتى يستطيع الرد على أبنائه وأحفاده إذا سألوه ماذا فعل بالقروض التي يتعين عليهم هم ردها!
ولو اطلع هذا الوزير على تجارب الحكومات الأخرى، لعرف كيف يقنعهم أنهم "نور عينيه"، دون الحاجة لبذل كل هذا الجهد عند إعداد الموازنة العامة.
(الدولار= 17.60 جنيها تقريبا)