فتحت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، يوم 24 سبتمبر/أيلول 2019، تحقيقا في قضية عزل الرئيس دونالد ترامب، في أعقاب الكشف عن مكالمة تفيد بضغطه على رئيس أوكرانيا للتحقيق مع نجل نائب الرئيس السابق جو بايدن، واستخدام ترامب سلطة منصبه لالتماس تدخّل أجنبي لمساعدته على الفوز في انتخابات عام 2020.
وهكذا، وضع ترامب رقبته تحت مقصلة معارضيه وخصومه. ومع تسارع الأحداث المتعلقة بالتحقيق في عزل ترامب، فإن السؤال: هل ستشفع النجاحات الاقتصادية السابقة لترامب له أمام الناخب والكونغرس، وبالتالي تحميه من مقصلة العزل؟
لقد كانت الولاية الثانية لترامب مرجّحة للغاية بفعل النجاحات الاقتصادية التي حقَّقها في فترته الأولى، والمتمثلة في منح تخفيضات ضريبية معتبرة، وإلغاء العديد من القيود التنظيمية المعيقة للأعمال، والحرص على خفض أسعار النفط، وتعيين قضاة محافظين.
وأدَّت تخفيضات ترامب الضريبية والزيادة في الإنفاق إلى توفير حوافز إضافية على المدى القصير. كما فسح ترامب المجال أمام إصلاح ضريبة الشركات في نهاية عام 2017، والتي تعدّ إحدى الحالات النادرة التي قام فيها الكونغرس بتبسيط وتحسين نظام الضرائب البيزنطي الأميركي، ومكَّن ترامب من تسريع اقتصاد يقدّر حجمه بنحو 20 تريليون دولار خلال الفترة الأولى من عهدته، وهذا ليس بالأمر الهيِّن.
كما تعتبر جهود ترامب لتقليص العراقيل التنظيمية، لا سيَّما على الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم، إضافة مهمة إلى النمو الاقتصادي الأميركي على المدى الطويل.
ويجب الإشارة أيضاً إلى أنّ تجربة التفكير الجديد التي تقودها إدارة ترامب والمتمثلة في إعادة تدريب العمال المشردين وتحسين التدريب المهني على مستوى المدارس الثانوية وتعزيز دور التكنولوجيا والبيانات الضخمة للحكومة الفيدرالية في المساهمة في توفير معلومات أفضل حول العمال والمهارات الأكثر طلباً وكذا الموقع الجغرافي للوظائف، كما تتولى ابنته إيفانكا ترامب مبادرة رفع مساهمة المنصات الرقمية في تحسين التعليم والتدريب بشكل كبير.
لكن في الوقت الذي عزَّزت فيه إدارة ترامب إمكانات النمو طويل الأجل للاقتصاد الأميركي من بعض النواحي، والتي تعتبر القشة التي يتعلَّق بها ترامب في محاولته للنجاة من قرار العزل، ما زال هناك جانب آخر قاتم لتلك الإدارة التي لها تأثير لا يُستهان به على المؤسسات والثقافة السياسية والتي تعدّ بدورها من أهمّ العوامل المحددة للنمو على المدى البعيد.
حيث سيستغرق التعافي من الضرر الذي يلحقه ترامب، وكذا إزالة التأثير التراكمي لسياسات ترامب الاقتصادية عدّة سنوات، وهذا ما يرفع من قيمة التكاليف الاقتصادية للإصلاحات المستقبلية.
أخطاء ترامب
أما فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية التي اتَّخذها ترامب وأدَّت إلى تأليب الخصوم عليه وإحداث شرخ كبير بينه وبين أغلب المواطنين الأميركيين، نجد أن منها:
-حالة عدم اليقين التي تسبَّب فيها ترامب عند قيامه بفرض العديد من الرسوم الجمركية على السلع المستوردة من الصين، وسط حرب تجارية متصاعدة يحترق بنارها المواطنون البسطاء، كما استولت المخاوف الجيوسياسية على معنويات المستثمرين الأميركيين.
-استمرار ترامب في ممارسة الضغوطات على مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، من أجل تخفيض أسعار الفائدة على الأموال الفيدرالية. ولا يخفى على أحد أنّ تلك الضغوطات تجعل من المداولات أكثر ضبابية وتؤدِّي إلى ارتفاع التضخم.
-عزم ترامب على تخفيض الميزانيات المقترحةللبحث العلمي، خاصّة تلك المتعلقة بالمعاهد الوطنية للصحة والمعهد الوطني للعلوم.
-تقاعس ترامب عن إنفاذ قوانين أكثر صرامة لمكافحة الاحتكار، وهذا ما سيؤدِّي إلى تفاقم عدم المساواة على المدى الطويل.
-اعتماد ترامب على الأرقام الاقتصادية الجيّدة فقط، والنابعة من فقاعة قصيرة المدى في الترويج لحملته الانتخابية، والتفاخر بصحة الاقتصاد الأميركي وتعمُّده إخفاء المخاوف بشأن الركود الاقتصادي، واتهامه المستمرّ لوسائل الإعلام والاقتصاديين بتشويه البيانات لإحباط فرص إعادة انتخابه.
-عدم اكتراث ترامب لحماية البيئة وانسحابه من اتفاقية باريس المناخية، مما سينعكس سلباً على النمو الاقتصادي لأميركا على المدى الطويل، لأنّ تكاليف تنظيف التلوث مستقبلاً تتجاوز بكثير تكاليف التخفيف منه حالياً.
وبهذه السياسات الاقتصادية، يوجِّه ترامب الاقتصاد الأميركي بخطى متسارعة نحو الركود الاقتصادي الذي اعتبر بمثابة عقبة رئيسية أمام الرؤساء السابقين، فقد فشل كل من جيمي كارتر عام 1980 وجورج بوش الأب في عام 1992 في الفوز بفترة ولاية أخرى، وسط الركود الاقتصادي.
الردع والعزل
السؤال: هل ستردع محاولات الإقالة التهوُّر الاقتصادي لترامب؟
تتفاقم محاولات إقالة ترامب بمستويات متفاوتة من الجدية، مؤدية بذلك إلى رسم واقع سياسي جديد تماماً قد يضع حدّاً لردع استراتيجية التهوُّر الاقتصادي التي انتهجها ترامب إزاء الدول التي تجمعها مصالح بالولايات المتحدة. وبالتأكيد، ستشوِّش التحقيقات المتعلقة بالإقالة على حظوظ ترامب في الانتخابات المقبلة، وستكبح جماح غطرسته ومعاملته المهينة لبعض الدول كالصين، كندا، دول الاتحاد الأوروبي، روسيا، السعودية وإيران.
فقد جاء تحقيق الإقالة في الوقت الذي وصلت فيه عدائية ترامب تجاه الدول الأخرى إلى أوجها، لذلك يمكن لتلك الدول أن تتفاءل بتراجع الهجمات الترامبية التي تعيق اقتصاداتها.
ويعلم ترامب جيّداً أنّ إعادة انتخابه مشروطة، إلى حدٍّ كبير، بحالة الاقتصاد في الولايات المتحدة خلال عهدته، لذلك قام بدعم الاقتصاد الأميركي، ليس لعيون الأميركيين، بل لتلميع صورته في انتخابات عام 2020، وهذا ما أصبح أمراً مكشوفاً في الشارع الذي اعتاد على اللعبة السياسية وفهم حنكة السياسيين الذين تعاقبوا على رئاسة الولايات المتحدة.
ويمكن للمرء ألاّ ينظر إلى أبعد من صفحة ترامب على تويتر لرؤية مدى تبجُّحه بإنجازاته التي جاءت نتيجة لتفريغ الخزينة السعودية من أموالها، من خلال ابتزاز حكامها بضرورة الدفع مقابل الحماية الأميركية، وكذا إجبار المملكة على ضخّ المزيد من النفط لإبقاء الأسعار في المستوى الذي يرضي الشعب الأميركي.
لقد سبَّب ترامب فوضى اقتصادية مطلقة في أميركا من خلال حربه التجارية على الصين ومطالبته المستمرّة بزيادة الإنفاق الفيدرالي، على الرغم من أنّ سياساته أدّت إلى ارتفاع العجز السنوي في الميزانية إلى ما يقارب تريليون دولار.
ولم يتمكَّن ترامب أيضاً من تحصيل إيرادات ملموسة للتعويض عن الإنفاق الإضافي الذي يطلبه، ماعدا الأموال التي جلبها من السعودية؛ كما أنّه أقحم قواعد جديدة في الاقتصاد وجعلها مستساغة سياسياً وقام بتشويه العديد من الحقائق المتعلقة بالأشخاص والجهات التي حاولت وضع حدٍّ لحماقته المالية والاقتصادية، وكل هذا جعل من دونالد ترامب أكثر رئيس غير مسؤول من الناحية المالية والاقتصادية على الأقل في التاريخ الأميركي الحديث وربما في كل العصور، لذلك يمكن لإجراءات الإقالة الجدية أن تكبح جنون ترامب ذي عقلية البزنس مان، لا المناضل من أجل الاقتصاد والسياسة.
سيكون الأثر السلبي للتركة الاقتصادية التي سيخلِّفها ترامب للمسؤولين المستقبليين محسوساً لمدّة عقد أو أكثر، فقد اتَّضح استعداد ترامب للمقامرة بمستقبل أميركا الاقتصادي من أجل ضمان فوزه في 2020، لذلك ينبغي على الشعب وضع حدٍّ لترامب ومنعه من تحقيق مكاسبه الأنانية والتصويت لصالح المرشحين الذين لديهم فهم أفضل للاقتصاد والسياسة والقادرين على دفع الاقتصاد إلى الأمام بطرق مدروسة وفعّالة ومستدامة.