ما بعد سقوط الكومبين (2)

03 أكتوبر 2019
+ الخط -

لم نكن قد دخلنا شقة أم عادل، منذ أن وقّعنا عقد إيجار الشقة قبل أشهر، وما إن وضعنا أرجلنا في الشقة، وأيدينا في طرف يد أم عادل، حتى واجهتنا المرأة ـ التي يلقبها الجيران عن حق بالمرأة الحديدية ـ وفي حضور ابنها الأكبر بتلك المعلومة الصاعقة التي تفيد معرفتها القاطعة بأن الكومبليزون وقع في أيدي أحد الموجودين في غرفة مؤمن، طالبة منا أن نجيئ بالحكاية من الآخر ونقول لها أين ذهب الكومبليزون وما الذي حدث له؟

للأسف قررت في تلك اللحظة الفارقة، وتحت تأثير مزيج من مشاعر القلق والخوف والإحراج، أن أرتجل وأبيع مؤمن وأقاربه، فقد كنت في النصف الثاني من العام الجامعي، حيث يستحيل إيجاد مطرح فارغ في محيط جامعة القاهرة وما تلاه، أو لعلي راهنت باختيار تحميل المسئولية لمؤمن، على أنه لو ضاقت به الدنيا وتم طرده من الشقة لوحده، يمكن له أن يبيت في أحد أركان مطعم السندوتشات الشهير بوسط البلد، الذي كان يعمل فيه "صنايعي شاورمة"، أيام أن كانت صفة "صنايعي شاورمة" لا تزال مثيرة للاهتمام والتقدير، قبل أن يظهر إخوتنا السوريون في الصورة فيكشفوا عَكّ صنايعية الشاورمة المصريين وبؤس شاورمتهم.

غلبني اندفاعي فقلت للحاجة أم عادل إن رؤيتها للجاني بنفسها وهو يأخذ الكومبليزون من بلكونة مؤمن يخرجني من المسألة، ويدفع مؤمن لتحمل المسئولية، ثم تماديت قائلاً إنني مضطر للاعتراف بأن مؤمن ليس ابن خالتي، بل هو مجرد صديق لأحد أصدقائي، وهو من الفيوم وأنا من الإسكندرية، وأن ابنها عصام سبق وجاء بنفسه إلى الشقة، ورأى أن كلاً منا يغلق غرفته على نفسه بالضبّة والمفتاح، وأنني أعرف أنه لم يكن يصح منذ البداية أن أكذب عليها، لكنني كنت مضطراً والمضطر يركب الصعب، وأنها ستغفر لي كذبتي البيضاء، لو عرفت مدى المعاناة التي عشتها لكي أجد شقة مناسبة تعينني على إكمال دراستي الجامعية بتفوق، وأنني أثق في أمومتها الحانية، التي لن ترضى وأنا داخل على امتحانات صعبة، أن أسقط في الامتحانات بسبب ساقط أساء التعامل مع الكومبليزون الساقط من بلكونتها.

نزل سهم الله على مؤمن، فلم ينبس ببنت شفة بعد كل ما قلته، بل أخذ يتنفس كميات كبيرة من الهواء بصوت مسموع، زاد أجواء القعدة توتراً، لتظهر أمارات التحفز على وجه عادل نجل الحاجة الأكبر، والعاطل عن العمل منذ مطلع الثمانينات، وقد كانت بطالة اختيارية بحسب ما كان يؤكد للجميع، وهو تأكيد يمكن أن تصدقه، لأنه كان على الدوام مفرطاً في الشياكة والحفلطة ويلزق على وجهه طيلة الوقت ابتسامة عريضة مستفزة، غابت فجأة حين علا صوت تنفس مؤمن، وحلت محلها تكشيرة عريضة مستفزة، وبدأ عادل يخبط على ركبتيه بعصبية، بينما ظلت أمه تصوب نحونا نظرة تحدي وابتسامة احتقار، وقبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه، كف مؤمن عن التنفس، فكف عادل عن التخبيط على ركبتيه، ولأن اللُّقا نصيب، وفراق الشقق نصيب، فقد شاء النصيب ألا يتذكر مؤمن وهو ابن السوق الناصح والمعروف بلسانه الحلو أهمية سلاح "المارشدير" في مواقف كهذه، ربما لأن أسفه على بيعي المفاجئ له، صدمه وشغله عن التفكير السليم، لذلك قال للحاجة بمنتهى البرود: "طيب من غير ما نكتّر في الكلام، حضرتك عايزة الكومبليزون، وأنا باقولك إن ما فيش كومبليزون، حضرتك بتقولي إنك شفتي حد في بلكونتي بياخده، أنا بقى باقولك ما فيش حد خده، لإن ما فيش أصلا كومبليزون، فإيه المطلوب دلوقتي يا حاجّة".

وقبل أن يهمّ عادل بالرد الغاضب على مؤمن، أشارت إليه أمه بطراطيف أصابعها لكي يخرس، سائلة مؤمن بصوت تخنشر واغلظّ في لمح البصر: "يعني أنا كدابة يا ابني؟"، ليفيقه غضبها ويعيده إلى إهاب شخصية بائع الشاورمة الودود اللطيف، فيقول هاشّأً باشّاً: "العفو يا ست الكل، الحكاية وما فيها إني ما كنتش بايت امبارح في الشقة، فما أعرفش إيه اللي كان بيحصل في أودتي، ومع ذلك لو عايزاني أسيب الشقة، ما عنديش مانع، إنتي مهما كان زي أمي وما يرضينيش زعلك، اللي تؤمري بيه هيكون". وربما كان خطابه العاطفي، سيجدي لو كان قد ألقاه فور بدء المواجهة، لكن تأخره فيه، ولجوءه في البدء لما اعتبرته تنطيطاً يقارب البلطجة، ولجوئي قبلها لما اعتبرته الحاجة نذالة صريحة، كل ذلك جعلها تحتقرنا وتقرر إخراجنا من حياتها، فدفعنا ثمن سوء توقيته وسوء تقديري، فلا نذالتي نفعتني، ولا تنطيطه أفاده، ولا نحن احتفظنا بالشقة، ولا بصداقتنا، ولا باحترامنا لأنفسنا، مع أننا من الأصل لم يكن لنا في ذلك الموقف، سوتيان ولا كومبليزون.

"الأمر لله وحده يا ابني"، جملة جاءت بعد صمت فأحيت آمالنا في الصفح والغفران، لكن آمالنا سرعان ما سقطت صرعى، حين قالت الحاجة أم عادل بحسم: "أنا شايفة إننا مش هنقدر نحط عينينا في عين بعض بعد كده، خصوصا إني كنت باعاملكو زي ولادي، وانتو أهنتوني لما كدبتوا عليا في بيتي، فأنا باقول الشهر فاضل عليه تسعة إيام تشوفوا فيها شقة تانية لإن شقتي تلزمني"، وبينما أغالب ذهولي وجزعي، وأتلمس طريقاً لتعميق المفاصلة بيني وبين مؤمن، اندفع صوت ابنها الأوسط عصام من خارج الصالون قائلاً: "ومالكوش عندنا فلوس تأمين يا أوساخ"، لتصرخ فيه باقتضاب: "بس يا حيوان ما أسمعش صوتك"، وتعود للنظر إلينا بملامح قضائية لا استئناف فيها ولا نقض: "فلوس التأمين هتاخدوها بما يرضي الله، وأنا كده خلصت اللي عندي"، ثم تنهض مغادرة الصالون، في حين أشار إلينا عادل بطراطيفه لنخرج على الفور، وأنا قدّرت أن وجود عصام بالجوار، وهو النزق الحِمَقي الشهير بخناقاته العبثية المتكررة، لن يجدي معه الاختلاء بعادل لالتماس فصل المسارات بيني وبين مؤمن، فقررت تأجيل المحاولة واللحاق بمؤمن لمغادرة الشقة قبل أن يُغلق باب الخروج الآمن على يد عصام.

تلكأت في نزول درجات السلم الهابطة إلى شقتنا، لأتجنب أي صدام محتمل مع مؤمن، خاصة أن صوت تنفسه عاد إلى الارتفاع المقلق فور خروجنا من شقة أم عادل، أخذت أسأل نفسي عما يجب أن أفعله لو قرر أن يتهور ويلف مسدداً إلى لكمة أو ركلة، وهل يجب أن أردها له على الفور، أم أعتبرها تعويضاً مناسباً عن بيعي له، خاصة أنني لم أربح شيئاً في ذلك البيع، بل خسرت صداقتي به، صحيح أنها لم تكن صداقة قوية أو ذات مستقبل، لأسباب سأشرحها لك لاحقاً، لكنني كان يجب أن أسيطر على انفعالي، وأترك المجال لمؤمن دون أن أستفزه، لعله ينجح بلسانه الذرب في كسر الحاجز النفسي الذي شيدته الحاجة أم عادل بأسرع مما توقعنا، وعلى عكس ما توقعت، أوقف مؤمن تنفسه الغاضب فور وصوله إلى باب شقتنا التي لم تعد شقتنا، وبعد أن وضع المفتاح في ثقب الباب، استدار نحوي مصوباً ابتسامة عتاب أوجعتني كثيراً، وقبل أن أنطق، أو قبل أن أجد كلاماً لأنطقه، فتح باب الشقة وقال لي كلمة واحدة فقط: "عاذرك"، ثم أسرع بالدخول إلى غرفته، وأغلق بابه عليها، وكان ذلك آخر عهدي بصوته.

في اليوم التالي فشلت محاولة جاري الأستاذ عبد الكريم للتوسط في أمري أنا وحدي، لدى الحاجة أم عادل التي أفحمته بعبارة واحدة مأثورة: "الساكت عن الحق شيطان أخرس"، ولأنني كنت في قمة الهشاشة النفسية، فقد شككت داخلي في صدقية ما رواه عنها، لأظن أنه ما صدق أن نُرمى من الشقة رمية الكلاب، فقد كان يعدنا خطراً على ابنته الحايحة طالبة الثانوية العامة، وبدا لي أنني بتوسيطه، أضفت الشخص الخطأ إلى دائرة العارفين بالأمر، فقد كان ناشطاً في الرغي المستديم مع سكان العمارة والعمارات المجاورة، والذين أيقنت أنني سأظل لفترة بطلاً لتشنيعاتهم المصحوبة بمصمصة الشفاه على الأخلاق التي انحطت، والملابس الداخلية التي لم يعد لديها حرمة لدى الجيران، والأقنعة التي سقطت عن من كنت تحسبه موسى فيطلع فرعون.

لم يكن ليحزّ في نفسي سوء ظن أحدهم بي، اللهم إلا فاتنة الفاتنات وجميلة الجميلات الست شوشو الساكنة في البلكونة المواجهة، والتي كان قد بلغني من قبل عن طريق محمود الصعيدي، جاري الأقرب إليّ سناً ومزاجاً، نقلاً عن زوجة خاله القاطن في الدور السادس، أنها أسبغت عليّ جزيل الثناء، لأنها لم تر من قبل ساكناً في شقة العزاب اللعينة تلك، لا يرفع عينه للبحلقة فيها حين تنشر الغسيل أو تمسح البلكونة، وقد كانت بالمناسبة تمسح البلكونة كل يوم في تمام الخامسة مساءً، وتختار لمسحها أكثر ثيابها شفافية، وأذكر أن أول عهدي برؤيتها، كان حين فتحت باب بلكونتي في أول أيام سكني في الشقة، فرأيت في البلكونة المواجهة مؤخرة مدملجة بديعة تعلو فوق حاجز البلكونة وتتحرك فيها داير ما يدور، قبل أن يظهر وجه صاحبة المؤخرة متأخراً، فيبدو أنه لا يقل جمالاً، ولكي لا أوقع نفسي في شر أعمالها، وطّنت نفسي على مغادرة البلكونة بل والشقة بأكملها حين تمسح الست شوشو بلكونتها، تاركاً فرصة اللقاء بها لأحلامي غير البريئة التي لا يحاسب عليها القانون، ولذلك وجدتني الست شوشو مختلفاً عن من سبقني، وأخذت تشيد بأخلاقي واجتهادي والتفاتي لمذاكرتي ودروسي، وبدأت تجمع معلومات عني من أخت محمود بعد أن رأتنا نذاكر سوياً ونخرج سوياً، وبعد أن أرضاها ما سمعته عني، صارحت أخت محمود في لحظة صفاء، بأنها تتمنى أن يطول بي المقام في الشقة، حتى تتخرج ابنتها طالبة الثانوي من الجامعة، فيكون لنا في بعضنا حظ ونصيب، ومع أن ابنتها كانت رائعة الجمال، لكني لم أكن لأتخذها زوجة أبداً، بعد أن اشتهيت أمها طويلاً، وهو مأزق أخلاقي نجوت من المرور به بفضل ذلك الكومبليزون الذي أطاح بي من الشقة، وأطاح بحلم الست شوشو في كزوج لابنتها.

بعدها فكرت في توسيط خال محمود الذي كانت له شنة ورنة في أرجاء الشارع، لأنه كان يعمل في المخابرات العامة، صحيح أنه كان يعمل موظفاً إدارياً في شئون العاملين قبل أن يحال على المعاش، لكن الكل كان يعامله بوصفه صائداً للجواسيس أنعمت السماء على ذلك الشارع البائس بحلوله وحضوره، لا تنس أن الجزء الثاني من رأفت الهجان كان قد أذيع قبل فترة وجيزة، وأن أرواح أدهم صبري ومحسن ممتاز ونديم قلب الأسد كانت تحلق بكثافة فوق سماء المدينة، ولذلك كان الكل يتعامل بحفاوة مبالغ فيها، مع النزول اليومي للخال المخابراتي من عليائه في السادس، إلى أسفل العمارة حيث تستقر سيارته المغطاة بغطاء مموّه طبعاً، ليزيح عنها الغطاء بتأنٍ كأنه يفكك قنبلة، ثم يغسلها بالماء والصابون، دون أن تكون قد اتسخت، لأنها لا تتحرك من مكانها أبداً، ليتسرب للجميع من هذا الطقس اليومي، أنها لم تكن مجرد سيارة عابرة، بل كانت مأخوذة من ملفات المخابرات العامة، ولذلك يحييه الجميع بإجلال، فهم لا يرونه على أرض الشارع، إلا في تلك الساعة من كل عصرية، دون أن تثار لديهم أي تساؤلات عن طبيعة العمل المخابراتي الذي يفضي بصاحبه إلى فراغ بائس كهذا.

للأسف انتفض محمود كأن عقربة غَرَفته، حين اقترحت عليه توسيط "السيد" خاله، وحين شعر بصدمتي من موقفه الذي لا يليق بصديق لم يسدد ديونه المتراكمة، فأقسم بالعظيم أن رفضه في مصلحتي، لأن إدخال الخال بمنصبه الحساس في موضوع الكومبليزون، ستنتج عنه عواقب وخيمة، لا هو حددها ولا أنا سألته عنها، لأنني في تلك اللحظة بالذات أدركت نسياني في غمرة القلق لأخطر مهمة كانت تنتظرني، وهي تبرير ما حدث لأمي، التي لن تتقبل أي رواية لما حدث، مهما اجتهدت في حبكها، وستصر على خبط مشوار فوري، لطرق أبواب الحاجة أم عادل وطلب رضاها، وسيصلها حينئذ نبأ الكومبليزون المهين، فينقطع عني سيل دعائها الذي لم أكن أملك سواه، حرفياً.

ولم يكن أمامي قبل أن أعلن هزيمتي الكاملة، وأستسلم لقرار إخراجنا من الشقة، إلا أن ألجأ إلى كارت أخير، أستعين فيه بجهود كمال باشا ضابط الاحتياط، الذي سبق أن غمرته أنا ومؤمن بجدعنتي، وضحينا من أجل أسرته تضحية لم يفعلها أقرب الناس إليه، وآن له أن يرد الجدعنة.

....

مقطع من روايتي (العفاريت التي تسكن شقة ياسر الذي مات وأنا أعتقد أن اسمه حسن)، وأواصل نشر مقطع آخر في الأسبوع القادم بإذن الله.

يمكن قراءة الجزء الأول من الحكاية على هذا الرابط:

https://bit.ly/2lC23P8

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.