فضيحة لبنان المتشابكة: القضاء والأجهزة والقرصنة

13 أكتوبر 2018
تغيب قوانين الجرائم الإلكترونية عن لبنان (أليكس ويليامسون)
+ الخط -
تشكل قضية "القرصنة" التي تهز لبنان منذ أسابيع فضيحة كبيرة على أكثر من مستوى، خصوصاً على صعيد طريقة عمل الأجهزة الأمنية والقضائية، ولا تستثني التدخلات السياسية النافرة، ولا تسريب محاضر التحقيق، ودخول صحف ومواقع إلكترونية على خط الأزمة واصطفافها طرفاً وممارسة ضغوط على الأجهزة الأمنية والقضائية، من دون إسقاط قضية بيانات اللبنانيين التي يبدو أنها سائبة تماماً.

بدأت القصة قبل نحو شهرين عندما ألقي القبض على ما سمي شبكة متهمة بقرصنة مواقع رسمية وخاصة في لبنان، وسريعاً نشرت بعض وسائل الإعلام الأسماء، متحدثة عن أكبر شبكة قرصنة في تاريخ لبنان، وعن أنها أمسكت برقاب اللبنانيين، وامتلكت قدرة التلاعب بداتا الاتصالات واختراقها، وكذلك الداتا الخاصة ببعض الأجهزة الأمنية.

وتحدثت التسريبات عن "أدلة دامغة" وعن خروقات شديدة الخطورة، وعن قدرات خارقة تمتلكها شبكة القرصنة، وتعريض الأمن القومي للخطر الشديد، وهذا كله أتى خلال مرحلة التحقيقات، وهي ليست السابقة الأولى على صعيد تسريب التحقيقات التي تعتبر تدخلاً في عمل القضاء وضغطاً عليه، خصوصاً أنه من المتعارف عليه ضرورة أن تبقى التحقيقات سرية.



تحولت القضية خلال أيام، بعد التسريبات، إلى قضية سياسية صرفة، خصوصاً مع توالي المواقف السياسية، والتعبير عن مواقف واضحة، وصولاً إلى الحديث عن ضغوط مالية وسياسية، خصوصاً أن المظنون به الرئيسي أو "العقل المدبر" كما تتهمه التسريبات ينتمي الى عائلة سياسية تعمل في قطاع المصارف، ما أعطى بعداً آخر يتخطى التحقيقات.

ويتبين مدى تداخل كل هذه العوامل ومن بينها اتهام البعض القاضي أسعد بيرم بتسريب التحقيقات لإحدى الصحف المقربة من "حزب الله"، وهو ما دفع وزير العدل، سليم جريصاتي، إلى الطلب من رئيس هيئة التفتيش القضائي الاطلاع على الملف واتخاذ ما يلزم من إجراءات في ضوء المقالات المنشورة على بعض مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض الصحف، حفاظاً على هيبة القضاء وكرامته وثقة الناس به.

وحتى إجراء وزير العدل لا يمكن وضعه في خانة العمل المؤسساتي الصرف، خصوصاً أن "العقل المدبر"، وفق وصف التسريبات، ينتمي الى عائلة على علاقة وثيقة بـ"التيار الوطني الحر" الذي ينتمي إليه جريصاتي، وسط أحاديث تشير إلى خلافات بين "التيار" و"حزب الله" على خلفية هذا الملف.

وتنقل الملف بين أكثر من جهاز أمني على صعيد التحقيقات، كما تنقل بين أكثر من جهة قضائية، خصوصاً بعد كف يد القاضي أسعد بيروم وتحويل الملف إلى المحكمة العسكرية التي أصدرت عبر قاضي التحقيق العسكري في لبنان، رياض أبو غيدا، قراراً ظنياً بحق إ.م. وم. ش. وخ. ص. اتهمهم فيه بالدخول إلى مواقع إلكترونية عائدة إلى قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة، وقرصنة هذه المواقع والحصول على مستندات ومعلومات يفترض أن تبقى سرية.



وتتحفظ "العربي الجديد" عن ذكر أسماء المظنون بهم، على الرغم من تداولها على نطاق واسع في لبنان، وكذلك ورودها علانية في القرار الظني الصادر عن أبو غيدا، خصوصاً أن أي حكم لم يصدر بعد يسمح بنشر الأسماء، والتزاماً بمبدأ "المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، بما أن الروايات حتى الساعة لا تعدو كونها تسريبات غير واضحة، ولا يمكن الركون إليها، كما أن "العربي الجديد" حاولت التواصل مع محامي المظنون به الرئيسي للوقوف عند الرواية الأخرى، لكن خطه كان مغلقاً.

هذا القرار الظني لم يمر مرور الكرام أيضاً، إذ عادت بعض الجهات إلى الحديث عن مخالفة من قبل أبو غيدا لقرار مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية المدعي العام العسكري، بيتر جرمانوس الذي اعتبر "القضية جنحة"، متهمة أبو غيدا بأنه أصدر قراراً يتماشى مع ما تحدثت به إحدى الصحف المقربة من "حزب الله"، على الرغم من أن الخلاف بين اعتبار هذا الجرم جنحة أو جناية يتعلق أساساً في غياب القوانين المتعلقة بالجرائم الإلكترونية.

والأدهى أن كل الأطراف يتهم بعضها بعضاً بمحاولة ابتزاز المظنون به الرئيسي مالياً، نظراً إلى انتمائه العائلي، فتتحدث الصحف والجهات الإعلامية عن ضغوط تمارس لإخلاء سبيله نظراً إلى انتمائه العائلي، وتتحدث الجهة الثانية عن ابتزاز مالي عبر الضغط لإبقائه موقوفاً، فيما تشير الجهة التي تدافع عن المظنون به الرئيسي، إعلامياً، إلى براءة كاملة استناداً، بحسبها، إلى تحقيقات "شعبة المعلومات"، وإلى أنه لا علاقة له بعملية القرصنة التي اعترف به القرصانان الآخران المظنون بهما، وأن ما فعله اقتصر على نسخ بعض المعلومات المقرصنة من دون أن يتصرف بها وذلك مقابل 2000 دولار أميركي.



وبانتظار المحكمة العسكرية، يبدو أن الملف سيبقى مفتوحاً على مصراعيه، طارحا أسئلة عدة عن طريقة عمل الأجهزة الأمنية، وكذلك القضائية، وعن سرية التحقيقات التي تبدو منتهكة دوماً، وعن حق أي موقوف، وكذلك عن مدى استقلالية القضاء، وسط هذا التداخل الفاضح بين عمل الأجهزة الأمنية والقضائية، وبين الضغوط السياسية، خصوصاً أن التجارب الأخيرة أظهرت فضائح من العيار الثقيل، وتبين بعدها قدرة أي جهاز على تلفيق أي ملف لأي أحد، وخصوصاً قصة المسرحي، زياد عيتاني الذي اتُهم بالعمالة لإسرائيل، وتبين لاحقاً أن الملف ملفق بعد تشويه سمعته ونشر محاضر التحقيقات، كما تبين لاحقاً تعرضه للتعذيب والضغوط.

ولكن يبدو أن قصة عيتاني لم تضبط عمل الأجهزة الأمنية ولا القضائية التي لا تزال مصممة على انتهاك خصوصية التحقيقات، كما أن تدخل السلطة السياسية، أو بالحد الأدنى الطبقة السياسية اللبنانية في عمل القضاء، بات ينذر بانهيار هذه المؤسسات، والسؤال جدياً عن مدى قيامها بعملها بمهنية وحرفية، بعيداً عن التأثيرات.

والفضيحة الأكبر التي يجب التوقف عندها هي فضيحة البيانات إن كانت التابعة للجهات الرسمية أو بيانات الأفراد في المؤسسات الخاصة التي يتبين يوماً بعد يوم أنها مستباحة كلياً، بعد تكرار الفضائح المتعلقة بها، وهو أصلاً ما يدفع إلى السؤال عن مدى تطابق صفة "عملية القرصنة الأكبر" أو الحديث عن كفاءة عالية للقراصنة المظنون بهم، خصوصاً أن نظم الحماية في لبنان ليست على درجة عالية من الدقة، وربما تكون غائبة كلياً.

وفي هذا الإطار، يقول المدير التنفيذي لمنظمة تبادل الإعلام الاجتماعي "سميكس" (SMEX) محمد نجم لـ"العربي الجديد" إن "قانون المعاملات الإلكترونية وحماية البيانات ذات الطابع الشخصي صدر منذ أسبوعين، لكن سيتم تطبيقه بعد 3 أشهر من صدوره بالجريدة الرسمية"، مشيراً إلى أن "هذا القانون تمت صياغته عام 2004، أي قبل صدور الهاتف الذكي مثلا أو انتشار منصات الإعلام الاجتماعي، لذلك فالقانون غير متناسق مع بيئة تداول البيانات والمعلومات والداتا والميتاداتا".

ويلفت نجم إلى أنه في "الشق التقني المتعلق بالقانون لا حماية تقنية لبياناتنا الشخصية"، لافتاً إلى أمثلة عدة مثل "تداول وبيع بيانات دفاتر السوق وتجميع الداتا وتطويعها لخدمة الأجهزة الأمنية من دون إشراف قضائي"، مؤكداً أن "لبنان بيئة حاضنة للقرصنة من الأجهزة الأمنية التي تم الاكتشاف، عبر بحث حملة (دارك كاراكال) في يناير/كانون الثاني الماضي، أن أحد الأجهزة يحاول قرصنة أجهزة لمستخدمين من 22 بلدا، من ضمنها لبنان، إلى محاكمة قادة الأجهزة كسوزان الحاج حبيش لقرصنتها حساب زياد عيتاني، وصولاً إلى تسريب صحيفة (نيويورك تايمز) وتفنيدها أخيراً كيفية قرصنة الهاتف الخاص لرئيس الوزراء، سعد الحريري، من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة عبر شركة إسرائيلية".