حمدي قنديل... وداع مَن عاش مرتين

02 نوفمبر 2018
قدّم برنامج "قلم رصاص" (تويتر)
+ الخط -
من مسجد "الرحمن الرحيم" بقلب العاصمة القاهرة، خرج جثمان الكاتب الصحافي والإعلامي البارز حمدي قنديل، لمثواه الأخير. حضرت معاني الفقد والغياب والحزن ليس على حمدي قنديل بشخصه فقط، بل على المثل الأعلى والرمز والنموذج بكل ما يمثله من نبل وصدق وإنصاف. 

هاجم الحكام العرب ورفض عار صمتهم على الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2003، فتم إيقاف برنامجه "رئيس التحرير" على الفضائية المصرية. اضطر إلى السفر إلى الإمارات لتقديم برنامج جديد بعنوان "قلم رصاص"، قبل أن يتم إيقافه مرة أخرى بعد 5 أعوام، بكى فيها وهو يقرأ على متابعيه كلمات الشاعر المصري فاروق جويدة "هذه بلاد لم تعد كبلادي" فبكى معه الملايين. وترحّم على الشهيد الفلسطيني حسين تيسير دويات، وقرأ له الفاتحة على الهواء، فأمّنت من خلفه الأمة العربية والإسلامية. ولعن الجلادين في كل زمان ومكان، فارتد صدى اللعن صرخات في قلب كل مؤمن بالحرية والحق والأرض.

أهداه الشاعر فاروق جويدة، كلمات كانت مقدمة بداية برنامجه "قلم رصاص"، فكان يطل ويقول "لم يبق لي غير القلم.. هدأ الصهيل وسافر الفرسان.. واستلقت على القاع القمم.. جفّ المداد وشاخت الكلمات وارتحل النغم.. حين استوى في الأرض صوت الله.. كان العدل دستور الأمم.. فإلى متى نمضي ونشكو حزننا الدامي.. ونصرخ من تباريح الألم.. وإلى متى سنظل نشكو من كل جلاد ظلم.. أطلق جيادك من كهوف الصمت... واحلم.. أجمل الأشياء فينا... صير إنسان حلم.. الأرض يحييها ربيع قادم... وضمير هذا الكون يسكن في قلم".

ربيع قد أحيا بالفعل الأرض العربية بعد سنوات من توقف برنامجه، أيّده وباركه في سلسلة مقالات صحافية كانت موعدا لم يخلفه قراؤه أبدًا. لكن خريفا داميا كان كفيلا بوقف عموده الأسبوعي الثابت، واحتجابه عن المشهد الصحافي والإعلامي تدريجيًا طيلة سنوات عانى فيها المرض بصحبة زوجته الفنانة نجلاء فتحي، صديقة ميدان التحرير.

وكان قنديل صديق الميدان أيضًا، بل كان متحدثًا إعلاميًا باسم الجبهة الوطنية للتغيير التي أسسها الدكتور محمد البرداعي عام 2010، والتي آمنت بأن التغير لن يتحقق إلا بخروج الملايين للميادين، وقد كان في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.

لم يخذل قنديل الشباب يومًا، رغم اختلاف مواقفه السياسية معهم في بعض الأحيان، لكن ظل مؤيدًا لتمكينهم وإفساح المجال لهم، وكتب ذات يوم عبر حسابه على "تويتر"، وهو حسابه الوحيد على مواقع التواصل الاجتماعي "جيلنا يجيد الكلام عن ضرورة تصدر جيل جديد للقيادة، لكنه لا يفسح له المجال".



ودافع عن حركة شباب 6 إبريل، في خضم الحرب ضدها وتشويهها، وكتب "اختلفوا حول 6 إبريل كما شئتم، لكن حركة شبابية وُلدت في الشارع تحت وطأة حكم مستبد لا يمكن أن يلغيها قرار إداري أو حكم من المحاكم"، ذلك لأنه يرى أن "التاريخ لا تكتبه أحكام القضاء".
تمسك قنديل بالدفاع عن ثورة 25 يناير دائمًا، وظل يحيي ذكرى ثورتها عبر حسابه النابض والمتفاعل مع الجميع بود وأدب جم، وكان آخر رسائل تأييده للثورة عام 2015 عندما كتب "في يوم ذكرى سقوط مبارك، ورغم كل دواعي اليأس.. لن نيأس.. عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية".

وبهدوئه ورقية ونبله المعهود، جادل معارضيه عبر "تويتر"، وكتب ذات يوم "آثرت الأمر ولكم أن تجادلوا كما شئتم حتى لو كانت خلافاتنا جذرية، لكن أشهدكم أني جادلت بالمعروف في حين لجأ كثيرون غيري إلى ما يتقنونه من سباب".

كان تأييد قنديل للانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز 2013، أحد أبرز نقاط الخلاف بينه وبين الكثيرين. كان قنديل يرى أنه "إذا كان ما حدث انقلابا حقا، فهذا لعمري أول انقلاب في التاريخ يعلن عن موعده ومن قاموا به وأهدافه قبل وقوعه بأيام بل بأسابيع". فضلًا عن معارضته لنظام حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، باعتباره أحد أبرز الشخصيات في جبهة الإنقاذ، التي تشكلت قبل الانقلاب بعدة أشهر وكانت تسعى لوجود حلول سياسية وسط بين النظام والمعارضين وحركة تمرد التي مهّدت للانقلاب والتي قال عنها قنديل لاحقًا "أنا وقّعت على استمارة تمرد.. إذن هي المفوَّضة بالتحدث باسمي"، وأتبعها "سيسطر التاريخ أنه في يوم 1 يوليو/تموز 2013 أصبح محمد مرسى العياط رئيسا لجمهورية رابعة العدوية".

وعن فض قوات الجيش والشرطة لاعتصام "رابعة العدوية"، قال قنديل في مذكراته: "يومها اتصلت بوزيرة الإعلام، درية شرف الدين، أطلب تعليقاً فى برنامج قصير شبه يومي بلا مقابل، وانتظرت أياماً عدة بلا جدوى... واتصلت بعدها ببرنامج (مانشيت) الذي يقدمه الإعلامي جابر القرموطي، لأعلق على بعض الأحداث السياسية، وعنف الوزيرة آنذاك تعنيفاً قاسياً".



ومع ذلك، فقد كان نبيلًا حتى في خلافه، وودودًا مع منتقديه ومعارضيه، لا سيما أنه تمكن كالمعهود عنه من إعادة قراءة المشهد السياسي والإعلامي فيما بعد، ليعلن توقفه عن الكتابة في جريدة المصري اليوم، بعد تعيين رمز من رموز عهد مبارك رئيسا لمجلس إدارتها. ويكتشف أن "مصر خرجت في 25 يناير لتقاوم التوريث، فإذا بقضاتها بعد 3 سنوات يورّثون مناصب النيابة لأبنائهم". وأن "النسبة الكاسحة لفوز أحد مرشحي الرئاسة قد تُرضي القطاع الأكبر من الناخبين لكنها دليل مؤكد على خلل النظام السياسي في مصر" معلقًا على أول انتخابات رئاسية بعد الانقلاب في 2014، ترشح فيها القيادي الناصري حمدين صباحي، وفاز عليه الرئيس المصري الحالي باكتساح.

ولد قنديل بقرية "كفر عليم" التابعة لمدينة بركة السبع محافظة المنوفية، في منزل أسرة من الطبقة المتوسطة، لأبٍ يعمل ناظر مدرسة، وأم متعلّمة، وترجع أصول عائلته إلى محافظة الشرقية، فجده الأكبر قنديل خليل، كان عمدة قرية المحمودية التابعة لمركز ههيا عام 1830.
وبعد ثلاثة أعوام قضاها قنديل في دراسة الطبّ، قرّر أن يعمل في الصحافة، لينضم إلى فريق عمل مجلة "آخر ساعة" عام 1951؛ بناءً على طلب الصحافي الراحل مصطفى أمين، ليعمل في نشر رسائل القراء مقابل أجر شهري قدره 15 جنيهًا.

في كتابه الأخير بعنوان "عشت مرتين" روى مذكراته منذ ميلاده عام 1936، وعرض تفاصيل دقيقة من تاريخ مصر، كان شاهدًا عليها.
تضم المذكرات 26 فصلا، منها "سنوات التليفزيون الذهبية"، "عصر استعمار المعلومات الجديد"، "الثورة التي خذلها البرادعي"، و"مأساة فيرمونت" و"ما أدراك ما الستينيات؟" و"مهنة مستباحة" و"الفلوس تتكلم".

توفي الإعلامي المصري حمدي قنديل عن عمر ناهز 82 عاماً، لكنه لا يعلم أنه سيعيش مرة ثالثة في ذاكرة كل عربي متمسك بقيمه ومبادئه، يحلم ببلاد لم تعد كبلاده.
دلالات
المساهمون