لمعرفة التحولات هناك حاجة ماسة إلى الإحصاء كأداة بحثية في المواد المشابهة، لكن ربما يمكن تجاوز هذه الحاجة بلا عناء في حالة البرامج السياسية اللبنانية. إذا كنت متابعاً عادياً لهذه القنوات، فستكتشف أن "المحللين" (هم يسمّون أنفسهم كذلك على أي حال) لم يتغيروا من ذلك الوقت، وأن ظهورهم عبر الشاشات لم يكن حدثاً أو حادثة، بل صار مهنة. وبالتالي، صارت تنسحب على حالتهم تعريفات المهنة، كمحاولات الكسب والعيش عبرها. يمكننا أيضاً اكتشاف أن غالبية هؤلاء لم يطرح على نفسه، أو أحدا يطرح عليه أحد، واحداً من أسئلة عالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو، الشهيرة والمتعلقة بهوية المتحدث إلى الجماهير عبر وسيلة اتصال هائلة كالتلفزيون؛ هل هناك ما يستحق أن يقال؟ هل هو في موقع يسمح له أن يقول ذلك؟ هل يستحق ما يقوله أن يقال في هذا المكان؟ باختصار شديد، ما الذي يفعله هناك؟
لا نملك إلى الآن إحصاءات عربية دقيقة عن المدة التي يقضيها المشاهدون العرب خلف الشاشات في زمن كورونا والحجر المنزلي. لكن، ومن دون جهد كبير، يجوز الافتراض أن هذه الفترات تجاوزت حدودها السابقة قبل الوباء. وإن كان هذا الافتراض المنطقي لا يعني بالضرورة أن التلفزيون يحظى باهتمام أكبر من وسائل الإعلام الاجتماعي، فإنه يثير الأسئلة نفسها عن المحتوى الذي يتلقاه العالقون في غرف الجلوس، وعن حدود تأثير هذا المحتوى عليهم. يعيدنا هذا إلى "المحلل السياسي"، وإلى قيمة ما يقدمه، وإلى الاعتماد عليه كمصدر للمعلومات، وفي أحيانٍ كثيرة لفهمها. الإفراط في هذه "المرجعية" قد يكون مقلقاً. ليس لأنه على حساب المصادر الحقيقية وحسب، بل لأن التلفزيون ليس فضاءً عاماً، بل ربما يكون خاصاً أكثر مما نتخيّل.
أحد القيمين على الإحصاء المذكور، في "تحليل" له آنذاك، اعتبر أن نسبة المتابعة المتدنية للبرامج السياسية الصباحية على الشاشات اللبنانية سببه أن "سيدات المنازل لا يهتممن بالسياسة". لمثل هذه الأسباب، قد لا تكون الإحصاءات مفيدة دائماً. يمكن أن تكون مدفوعةً بمجموعة اعتبارات سلطوية، الذكورية أحد وجوهها الواضحة. فكما هو معلوم، لا الصباح مسألة نسائية، ولا المنازل للنساء فقط، كما أن السياسة لم تعد حكراً على الرجال منذ خمسين عاماً على الأقل. الأرقام لا تكفي، لكن تحليلاً مثل هذا، يعيد الأسئلة عن "الرأي العام" والباحثين في تشكله، إلى الصفر.
بعد كورونا، تغيّرت نسبة المشاهدة. يمكننا الافتراض أنها تغيرت. التلفزيون عاد ليكون مؤثراً. لكن هل تغيّر المحتوى؟ تغيّر النِسبة ليس سببه أن "المحللين" تغيّروا، أو لأن المحطات التلفزيونية المحلية أصبحت تقدم محتوى أفضل، بسبب قوة المنافسة من الفضائيات، أو أي افتراض من هذا النوع. الجميع يعرف السبب. بعد كورونا، عاد التلفزيون صديقاً. يمكننا أن نتوقع، أن الاهتمام بالوباء وأخباره من حولنا، سيلقى الكمية الأكبر من الاهتمام أيضاً.
يعرف بيار بورديو أن الشخص "هناك" يفعل ما يفعله: يساهم في صناعة رأي عام. مثل أي صناعة، تختلف المنتجات باختلاف العناصر وعملية الإنتاج. زيادة نِسبة المشاهدة غالباً ستُسهِم في تسريع العملية. وما يميّز التلفزيون هو تلك الجاذبية التي لا تتأثر بالمتغيرات. وربما لهذه الأسباب، يصح أن نأخذ لبنان مثالاً. في لبنان، الحرية الإعلامية ذائعة الصيت. ليس بالضرورة أن يكون هذا "الصيت" صحيحاً، لكن هناك علاقة مفترضة بين مَن ينتجون المادة التلفزيونية، وبين المشاهدين، بوصف الأخيرين زبائن. ولا أحد يمكنه أن يفهم لماذا لا يُطلق عليهم هذا الاسم بكل صراحة. فجزء كبير منهم "زبائن" طائفيون، يختارون ما يشاهدونه على الشاشات، حسب الانتماءات الطائفية، أو لمشاهدة ما تقوله "شاشات الطوائف الأخرى"، حتى عن كورونا. ولكيلا يتسرع أحد، ويعتبر هذا تنميطاً للمشاهدين اللبنانيين لا يستند إلى إحصاءات "مقدسة"، يجب التذكير بأن التلفزيون نفسه أداة للعرض، يستهلكها المشاهدون في النهاية.
كذلك، يمكن أن تلعب الشاشة دوراً إيجابياً في مسألة الديمقراطية، وليس في ترويج الأيديولوجيا والتجارة بمختلف أصناف الـ "يوتوبيا"، كما يمكن أن تستثمر في النقائض، فتسهم في تعزيز ثقافة الاستهلاك وتحاول في أماكن كثيرة (كما في الحالة المصرية) تسويغ القمع وتبريره. الشاشات اللبنانية، حتى التي لا تتسم منها بصبغة طائفية واضحة، اكتسبت بعد الوباء نسباً أعلى من المشاهدة، كما يبدو من على الأقل من توجهات المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها نسب ضمن الشروط السابقة. حتى بعد كورونا، حين كثرت الدعوات إلى البقاء في المنزل، يمكن الاتفاق على أن التلفزيون لديه وظيفة أساسية: الحفاظ على النظام. معالجة تداعيات البقاء في المنزل على الأسر الفقيرة في لبنان، كما نقلتها الشاشات اللبنانية، هي أوضح مثال على ذلك. كانت معالجات من داخل هذا النظام وليس من خارجه. قناة "الجديد" صوّرت المساعدات واستثمرت في حاجة المحتاجين لرفع مستويات المشاهدة، وبقية التلفزيونات تحدثت عن مساعدات "طوائفها".
وقبل كورونا، كما بعده. السوريون والفلسطينيون لا يزالون "غرباء" على بعض المحطات اللبنانية، وقد أضيف إليهم عناصر جديدة (قناة (إم تي في) تقول في أحد أخبارها: أوقف أربعة أشخاص وسوداني لقيامهم بأعمال صرافة غير مرخصة). الفارق هو أن نسبة المشاهدة ارتفعت، وأن ما يمكننا افتراضه عن سلوك الجماعات في حالات الخطر يتضح بوضوح في مثل هذه الحالات. مجدداً، يبدو تحليل بورديو مناسباً أكثر من غيره، للتحذير من التمادي في سلطة التلفزيون الذي يملك القدرة على استغلال المشاعر الأولية ــ القومية، وتسخيرها في معارك من أجل الكسب ضمن المنظومة الرأسمالية. هذا التفاقم في نِسب المشاهدة، وإذا استثنينا الهيمنة السياسية على برنامج المُنتِج وتأثيره على المتلقي، فإنه سيلعب دوراً سلبياً في جوانب أخرى كثيرة، لاحتكامه إلى شروط قد لا تكون أخلاقية دائماً، مثل نسب المشاهدة، وسوق الإعلانات، والابتذال، والتحريض، إلخ.
النظام يتعامل مع التلفزيون حسب شروطه، إن كان هذا النظام قمعياً بيده اليمنى الأيديولوجية، أو يقمع باليد اليسرى التي تسيطر على قواعد الإنتاج والاستهلاك. وهذا ليس كلاماً نظرياً، بل يمكن الاستدلال على ترجمته العملية، بمراجعة دورة البرامج وجدولتها على عينات من الشاشات العربية، وليس فقط اللبنانية. نتحدث عن طبيعة المواد المطروحة للنقاش في ذروة "نجاحاتها"، من الأيديولوجيا وصولاً إلى الجنس، وعن الضيوف المختارين بعناية، للزعيق باسم الأيديولوجيا من جهة، أو لتأمين الحد المطلوب من نسب المشاهدة وإن تطلب ذلك الهبوط إلى أسفل درجات الابتذال.
هيمنة أخبار الوباء على العالم لم تغيّر هذه الاعتبارات. سنجد على أحد برامج "التشويق" على قناة "الجديد" اللبنانية من يستخدم عدته الذكورية القديمة، ويتخيّل وجود "عاهرات" يتحدثن مع الأشخاص، وينقلن الفيروس إليهم، كما سنجد تقريراً متعاطفاً مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على "إم تي في" وأخبار الوباء على القناة عينها بتوزيع ديموغرافي يراعي الوظيفة الطائفية. ما يرتفع فعلاً ليس نِسب المشاهدة العامة، بل دورة عمل هذه الوظيفة تحديداً. ف
ي سورية كان النظام قمعياً، فكانت وظيفة تلفزيونه أن يحافظ على القمع. في مصر، وظيفة الشاشة كما يفهمها المهيمن عليها، أن تُخفي، لا أن تُظهِر. في لبنان النظام "زبائني" إلى "ما بعد زبائني". وهكذا تطورت وظيفة التلفزيون المحافظة على هذه العلاقة "الزبائنية" بين المشاهدين والسياسيين، بوصف المجموعة الأولى "زبائن" دائمين عند المجموعة الثانية. ولذلك، فإن "جدول العرض"، أو "المعروضات" عموماً، يتشكل من الفئة الثانية، أي السياسيون الذين يسمّون أنفسهم "محللين سياسيين"، بينما تشتري المجموعة الأولى هذه المعروضات عبر مشاهدتها.
التلفزيون مجرد وسيط، أو أداة متعددة الاستخدامات. وما يتقدم فعلاً ليس نسبة المشاهدة بسبب البقاء في المنزل، فربما قضمت وسائل التواصل الاجتماعي من هذه المساحة. ما يتقدم فعلاً، على الأقل في الشاشة اللبنانية، هو دور هذه الشاشة المتقدم في استغلال الأزمات الكبرى لإعادة تدوير منتجات هذا النظام الفاشل. ما يرتفع فعلاً هو نسبة الملل.