لم يُخفِ الثنائي الأميركي، المخرجان دان كوان ودانيال شنريت، تأثر فيلمهما الأخير Everything Everywhere All at Once بكشكول من الأعمال الأيقونية، هوليوودية وآسيوية بشكل أساسي. فيلمهما الصادر هذا العام ينتمي إلى ما يصطلح عليه أفلام "المفهوم العالي" (High Concept). الأعمال السينمائية المنتمية بنيوياً لهذه الفئة يصعب الحديث عنها من دون الإشارة إلى غيرها من الأفلام التي تأثرت فيها واقتَبَست منها. بالدرجة الأولى يستحضر المشاهد أفلام الخيال العلمي، التي تتناول الأكوان المتوازية، كإنتاجات "مارفل" الشهيرة، ولكنها ليست كافية لقراءة هكذا عمل.
تبدأ القصة المنثورة زمنياً على العديد من الأكوان الموازية مع إيفلين (ميشيل يوه)، المهاجرة الصينية المقيمة في الولايات المتحدة. تنتقل بطلتنا من حياتها البسيطة التي تكافح فيها للحفاظ على أسرتها وعملها، إلى رحلة عبر الأكوان المتوازية لتخليص العالم من الروح الشريرة جوبو توباكي التي تسكن جسد ابنتها جوي (ستيفاني هسو). تصل للبطلة الدعوة للاندماج في المغامرة عقلياً وجسدياً، وتقبلها كما حصل مع البطل في فيلم The Matrix. تستعير إيفلين قدرات قتالية وحركية وذهنية من نسخها العديدة في العوالم التي لا حصر لها، وتسخرها في سبيل الحفاظ على بساطة ورتابة حياتها.
الحرفية والإتقان التمثيلي اللذان حمّلت بهما إيفلين الفيلم ساعداها على بناء شخصية مكونة من القدرات الرياضية القتالية الاحترافية للممثلة أوما ثرومان في فيلم Kill Bill الصادر عام 2003، إخراج كوينتين تارانتينو، ما سنعتبره تقنياً، الأداة المساعدة للبطل.
يرجع الصيني دان كوان الغرائبية والتغريب إلى تأثره بفيلم الأنيمي الياباني Paprika الصادر عام 2006، إخراج ياسوتاكا توسوتوسي. تستمر إيفلين بالنضال لتمتين أواصر عائلتها المهددة بالتفكك، بسبب زواجها من رجل اتكالي، وخلافها الدائم مع ابنتها المراهقة حول سلوكها وميولها المثلية، ما يضع علاقتهما على المحك.
السباحة في الخيال عنوان رحلة المشاهد مع الفيلم. الشق الفني والشق العلمي، رغم فانتازيته المارفيلية، لم يَغفَلا عن الاهتمام بقضايا واقعية كعلاقة الآباء بالأبناء والعلاقات الزوجية، وأزمة منتصف العمر، والمراهقة، والأحلام والخيبات، وفجوات الأجيال. لكن تعدد القضايا، رغم إنسانيتها العالية، جعلته كوعاء ينضح بمجموعة من الأفكار المألوفة لدى المشاهد، من دون معالجة جديدة، خففت تكرارها الساذج الغلاف العاطفي المؤثر.
بصرف النظر عن أنه اقتبس من غيره الكثير، وهذا ما يعتبر حقل ألغام عند النقاش عن أفلام المفهوم العالي، إلا أن الثنائي الإخراجي حافظا على الغرائبية اللافتة، عبر إعادة تدوير الأعمال السابقة على نحو خاص، يوحي بأصالة العمل، فالاثنان اللذان قضيا ما قضياه في صناعة الكليبات، عادا بعد نجاحهما في فيلمهما السابق Swiss Army Man، ليثيرا الجلبة النقدية والجماهيرية.
فيلم لا وصفة أجناسية له، حبكته الرئيسية خيال علمي ومغامرة، صراع البطلة لحماية عائلتها من التفكك والحفاظ على عملها وتسديد الضرائب المترتبة عليها، يجعله من نوع أفلام العائلة. بناء شخصيات العمل حافظ على الجانب الكوميدي والفانتازي، للحظة نفاجأ بالمخرجين اللذين اختلقا عالماً تمتلك فيه إيفلين أصابع من النقانق، وتحسن استخدام قدميها بدلاً من اليدين.
تعددت وتنوعت صراعات الشخصية الرئيسية ضمن القوالب الأجناسية المتعددة ما جعل الفيلم على جانب كبير من الفوضوية. صحيح أن مقولة الفيلم بسيطة وواضحة ويمكن اختزالها بأن قوة الحب أعظم من أي قوة جسدية أو طبيعية، إلا أن صناع العمل حشروا فيه مجموعة من القصص والأفكار، ما حال دون التعمق في أيٍ منها، ليصل لنا جزء كبير من العمل محشوا بمشاهد الحركة والقتال، من دون أحداث تصب في المقولة. أيضاً، هناك النهاية الهوليودية التقليدية، نهاية سلام وراحة للبطل، ربما اختار صناع الفيلم القالب الجاهز الذي تتدفق من خلاله الحكاية كأفلام الأبطال الخارقين، أو أنهم وجدوا في النهاية الكلاسيكية سبيلاً لجمع الحكايات المتشعبة في الفيلم.
أحد أهم الأسباب للأصداء الإيجابية التي حصدها الفيلم، يعود إلى تفرد لغته السينمائية واعتماده على الإبهار البصري، بما فيه من تقطيع مونتاجي سريع تتخلله بعض المشاهد البطيئة، بتأثر واضح بالهوية الصورية لسينما المخرج الصيني الهونغ كونغي وونغ كار واي. سببٌ آخر مهم، هو أن جميع المؤثرات البصرية صُنعت من قبل تسعة أشخاص، بمن فيهم المخرجان، وأنجزت تماماً على يد خمسة فنيين لم يدرسوا صناعة المؤثرات أكاديمياً، بل تعلموها عبر برامج مجانية على الإنترنت. شارك في إنتاج الفيلم الأخوان روسو المعروفان بتجاربهما في إخراج عدة سلاسل لـ"مارفل"، المتوجهة في سنواتها الأخيرة لصناعة أفلام تتناول الأكوان المتوازية أشهرها "دكتور سترينج" الذي قدرت تكلفته الإنتاجية بما يقارب ثمانية أضعاف كلفة فيلم دان ودانيال.
ميشيل يوه، الملقبة بملكة أفلام الحركة الآسيوية، تقدم في فيلمها هذا نسخة أنثوية لبطل الكونغ فو الصيني جاكي شان. هي، وفريق التمثيل من النقاط التي تستحق الوقوف عندها، دورها يتطلب كثافة عاطفية ومقداراً لا بأس به من الكوميديا، استطاعت بفضل أدائها المميز ربط خيوط الفيلم وإيصال شعور الشخصية إلى المشاهد بكل تقلباتها الشعورية بين الضيق والانفراج، لنضعها أخيراً كممثلة في كفة والفيلم وما يتبعه من تفاصيل وأحاديث وبروباغندا أميركياً في كفة أخرى.