يُقال إنّ الإبداع يتطلبّ اتّخاذ مسافة معيّنة من الأشياء والأحداث، وإنّ إنجاز فيلمٍ في خضمّ خطب شاغل ومستأثر بالأحاسيس، كجائحة "كوفيد 19"، مهمّة معقّدة، توازي المجازفة بقطف ثمار لم تنضج بعد. المؤكّد أنّ وجهة النظر هذه تنطوي على جزءٍ من الحقيقة، لكنّ رفعها إلى مستوى مسلّمة أمرٌ مبالغ به. فتاريخ السينما مليء بأفلام أُنجزت في قلب أحداثٍ، ملأت الدنيا وشغلت الناس، بل قلبَت مجرى التاريخ، مع احتفاظ مُنجزيها بمسافة معيّنة، كفلت لهم مقاربة ما صوّروه بشكل عميق وجميل، كأفلام الحروب (الحرب العالمية الكبرى والحرب الأهلية في إسبانيا مثلاً)، وتلك المتمحورة حول انتفاضات أواخر ستينيات القرن الـ20 في أوروبا، ووثائقيات مهمّة عن الأزمات المالية والاقتصادية، مطلع الألفية الثالثة.
المسافة، رغم أنّها تنتج غالباً من مرور الزمن، يحدث أن تتأتّى من دونه، شرط حضور الموهبة والمقاربة الإبداعية الملائمة.
مناسبة هذا الكلام مبادرة حميدة بعنوان "وضعية و6 مخرجين"، لـ"المركز السينمائي المغربي"، الذي أنتج 6 أفلام قصيرة، متوافرة على منصّة موقعه الرسمي، تتناول ظروف عيش 6 مخرجين مغاربة مع "كوفيد 19"، هم (وفق تسلسل عرض أفلامهم): محمّد مفتكر وفوزي بن السعيدي وتالا حديد وحكيم بلعباس وعادل الفاضلي وياسين ماركو موروكو. ينصّ التعليق، المرافق على منصّة العرض، على أنّ الأفلام مُصوّرة بهواتف نقّالة، مع "احترام التدابير الوقائية من تفشّي فيروس كورونا الجديد"، لـ"التعبير عمّا يحدث في مكانٍ ما في هذا العالم، حيث الرؤية ضبابية والأوراق مبعثرة".
أول ملاحظة تقول إنّ الأفلام الـ6 أكّدت تنوّع الرؤى والأنواع والمقاربات، الذي يُشكّل السمة البارزة للسينما المغربية، مع غلبةٍ لتأثير السينما المتحرّرة من قيود الحبكة القصصية والخطّية، بسبب طبيعة الموضوع، الذي يفرض قدراً لا مفرّ منه من الذاتية، الحاضرة بقوّة في الأفلام كلّها، من جهة، وتأثير تقنية التصوير بكاميرا الهاتف الذكي، التي طبعت بدورها شكل التّناول، وبالتالي محتوى الأفلام، من جهة أخرى. هذا يقترب من قولٍ مأثور لفيكتور هوغو: المحتوى شكلٌ يطفو على السّطح.
تكمن أجمل لحظات مُشاهدة البرنامج في تقاطع الأفلام في خطاباتها ومراميها، فينشأ بينها حوارٌ مغرق في البلاغة عن عالم اليوم.
مفتكر وبن السعيدي
في "مسافة" لمحمد مفتكر، يوميات رجل وطفليه في غياب الأم، العالقة خارج المغرب بسبب حظر السفر، والحاضرة في السرد بصوتها، عبر شذرات عن تحاليل طبية، كشفت إصابتها بمرض خطر، وبالمأزق المترتّب عن ذلك. إذا توقّفت لحظاته الأولى عند الوضع في أجواء الحجر، وما يرافقه من فراغ روحي، يضاعفه غياب الأم، فإنّ الحبكة تغوص سريعاً في نوع من تكرارٍ ورتابةِ إيقاع، يؤجّجهما ترداد لازمات في تعليق فاطمة عاطف (رغم البحّة الجميلة لصوتها)، وتطبيعه مع فكرة الموت، فتفقد (الفكرة) بالتالي مفعولها الشّبحي، الذي ينبغي أن يُحَسّ به أكثر من أنْ يكون فظّاً باللّفظ.
لم يخدم الفيلم عدم تناغم الإخراج، المتجلّي في وجهة نظر الكاميرا، وانتفاء المسافة الضرورية مع المُصوَّر. هذا ظهر جليّاً في مشهد المتجر، الممتاز والمهتزّ بشكل ناشز عن بقية الفيلم، واللّقطات المقرّبة من وجه الأب، التي لم تكن قطعاً أجمل ما فيه. مَشَاهد لعب الأطفال في سطح المنزل، كفضاء مفتوح ومغلق في الآن نفسه، وتأمّل الأب على مشارفه وسط صمتٍ، تشقّه للأسف الموسيقى التصويرية، تبقى أفضل لحظات "مسافة".
أما فوزي بن السعيدي، فقدّم فيلمَ تركيبٍ ذا بعد تجريبي، بعنوان "شجر". دعوة إلى التواضع، بمعناه الفلسفي، اقتداءً بهذه الكائنات الحيّة العظيمة، واستراتيجية التكيّف العبقرية التي انتهجتها للتّناغم مع محيطها منذ ملايين السنين. لفتة ذات بعد إيكولوجي، تجد صداها في مقاربة التّدوير، التي انتهجها المخرج في استغلال مقاطع من أعمالٍ سابقة ـ أجملها فكرة مراقبة الهلال من الشرفة المحيلة، في افتتاح "ألف شهر" (2003) ـ لصُنع قصيدة شعر فسيفسائية مُفعمة بالأمل، في حبّ السينما والحياة المتناغمة.
يبدأ "شجر" بمقطعٍ مشدودٍ بالانتظار وترقّب الكارثة، من "يوم احتراق الأرض" (1961) لفال غيست، تليه لقطات خاطفة يطبعها الحنين إلى قاعات سينما مغربية، طاولها الإهمال والخراب بعد إغلاقها، مُقتطفة من سلسلة أفلام وثائقية تلفزية، أخرج منها بن السعيدي وثائقياً بعنوان "القاعة: فكرة ما حول السينما". هذه طريقة مبكّرة للتجذّر في مقاربةٍ، لطالما حدّدت اشتغال المخرج: رؤية العالم من زاوية الـ"سينفيليا" بمعناها الواسع، أو الفكرة الغودارية التي تقول إنّ بوسعنا الحديث عن كلّ شيء بموشور السينما. قبل أن ينبري بن السعيدي لهوايته المفضّلة في التجريب، انطلاقاً من مزج صُوَر وأصوات وموسيقى ومناخات مختلفة، لعلّ أبرز ما يمثّلها الانتقال البديع من لحاء شجرة إلى رفّ مملوء بأشرطة الأفلام والأغراض السينمائية، في إشارة بليغة إلى أنّ الوسيلة المثلى للسينمائي كي يتكيّف مع الأوضاع الصعبة تتمثّل بالانزواء على مشاريعه، ومحاولة إعادة ترتيب العالم انطلاقاً من مائدة المونتاج (جملة "أنا أرتّب إذاً أنا موجود" على ظهر أحد الملفات).
صحيحٌ أنّ جينريك القسم المعنون بـ"الغابة" أضرّ شيئاً ما بتماسكِ المجموع، بما أضافه من فصلية، قبل أنْ يجرفنا سحر تمرين التأمّل في المشهد الأخير. لقطة ثابتة وطويلة، تجمع بشكل ملخّص بين خراب المشهد الأول، من خلال المبنى المهجور في مقدّمة الصورة، والأشجار في العمق، بينما يجاهد أبطال الفيلم الكبير لبن السعيدي، "موتٌ للبيع" (2011)، لصعود التلّة بشكل لاهثٍ ومُستميت، يحلو أنْ نرى فيه وعورة تحدّي التسامي نحو شرط الأشجار، والعيش المتناغم وسط الطبيعة.
وفاءٌ للذات السينمائية
وفيّةً للنّزعة الكونية ولجمالية اللقطة الطويلة، التي تميّز أعمالها، تفتح تالا حديد، في "بطاقة بريدية في زمن كورونا"، نوافذ للخطب العالمي الجلل في اليومي الحميمي، مُستعينةً بأيقوناتٍ وصُوَر تستدعي عمق التاريخ وشساعة الجغرافيا، لاستجلاء ضبابية الآنيّ الخانق. ينطلق الفيلم بلقطة مفزعة من داخل جناح العناية المركّزة في مستشفى "يوهان"، قبل أنْ يتحوّل شيئاً فشيئاً من الوبائيّ المفعم برائحة الموت إلى التأمليّ المشمول برحابة الفنّ، مروراً بلقطة غسل اليدين، بكلّ حمولتها من الطقوسية والتوجّس، ثمّ لقطات ساحرة بالأسود والأبيض لمحيط جامع "لفنا" في مراكش، وأخرى تبدو كأنّها مأخوذة بفلتر ضوئي أحمر، جرّاء عاصفة رياح، بأبعاد "أبوكاليبتية"، ما يُضاعف الشعور بالاغتراب من داخل هذه الفضاءات المشبعة بتقاليد الصُّوَر السياحية، وهذه أسمى درجات التفرّد.
تُراهن مخرجة "إطار الليل" (2014)، بشكل واضح، على الصوت، وبالتالي على ترك مساحة أكبر لخيال المُشاهد، بتفضيلها عدم الظهور في الكاميرا، ولا إظهار من تتواصل معهم في مكالماتها، ما عدا صورة شمسية بالأسود والأبيض لوالدتها، تُدشّن بها سلسلة لقطات مرتكزة على أيقونات من الماضي: صُوَر المشفى البلدي في "أوكلاند" (كاليفورنيا) عام 1918، صورة نساء منقّبات من "حزب الاستقلال" في تطوان، في أربعينيات القرن الـ20، في دعوةٍ بليغة لتلمّس القراءة التاريخية، لتحييد سطوة الآنيّ والمُستَحدَث، التي تميّز خطاب وسائل الإعلام، المرتكز على خلق الفزع وعدم التوازن لدعم ثقافة الاستهلاك.
تستمرّ جمالية الإيحاء من خلال الأيقونات الصامتة بصُوَرٍ لتماثيل صغيرة من العصر السامري، ثمّ بورتريه مؤثّر لبازوليني، بكلّ حمولة كتاباته حول طمس التاريخ، وما يتلوه من مذابح ثقافية. قبل أن يتحوّل الفيلم إلى مشهدٍ ـ مفتاح، نقرأه بمثابة خلق على المُباشر لأيقونةٍ بدل إظهارها، حيث تخطّ يد المخرجة (بينما لا يتوقف قطٌّ منزليّ عن ازعاج حركتها، في نَفَسٍ ارتجاليّ بديع، زاد من صدق المشهد) رسماً لوجه مُقنّعٍ، بالتوازي مع مكالمة تجمعها برئيسة فرع الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين في "مِنيابوليس"، عن حادثة مصرع جورج فلويد مُختنقاً تحت ركبة شرطي أميركي، فتتحدّثان عن "سقوط الأقنعة"، وكيف أنّ الأفروأميركيين "يواجهون فيروسين: كوفيد 19 والعنصرية"، في لمحة رائعة أخرى إلى حتمية الخروج من القراءات الضيقة، واستشراف الواقع بكلّ تعقيده، للخروج من المأزق. هذا الفيلم جوهرة حقيقية.
خواتم أم استنتاجات؟
في "دون خواتم" (أليست "من دون استنتاجات" ترجمة أبلغ للعنوان؟)، يجْنَح حكيم بلعباس إلى البقاء وفياً لجماليات تصوير محيطه العائلي، كما فعل في رائعته "أشلاء" (2009). يمكن تقسيم الفيلم إلى جزأين، تفصل بينهما عودة الأمّ من سفرٍ في أوج الجائحة (كأنّ الفيلم تنويعة، تدفع سيناريو "مسافة" لمحمد مفتكر إلى الأمام). يتركّز السرد بشكل خاص على مايا، ابنة المخرج، في فترات متنوّعة من حياتها، بين الطفولة والمراهقة، وفق حبكة لا تنظّمها الكرونولوجيا الزمنية، بقدر ما يحكمها رابط قوى الطبيعة المألوف عند بلعباس: الماء (أمطار، مسبح، شاطئ البحر) في الجزء الأول، والأرض (الاعتناء بالحديقة، العنصر الحيواني) والرياح (اهتزاز الأشجار) في الجزء الثاني.
يتمحور الفيلم حول ثيمة الحرية والانطلاق كتحدٍّ للقيود التي تفرضها الإجراءات الاحترازية. حرية تعضدها، على مستوى الشكل، كاميرا متحرّكة جداً، وقريبة من الشخصيات إلى حدّ الملامسة، ما يذكّر بإستتيقا تيرينس ماليك. رغم تشبّع الفيلم بكثافة عيشٍ تكفل له الصّدق، فإنّ بعض التشتّت يطبع الجزء الثاني، ما يؤثّر بإيقاع المجموع. ثم تأتي لقطة ختامية قوية لمتشرّد من أصل أفريقي، تتباين فيها إنسانية كلماته حول التعايش بين الثقافات والأعراق، مع الظروف المزرية لعيشه، لتحمل الفيلم إلى أفقٍ كونيّ، وتُكدّر على هناء الأسرة بأخبار الاحتجاجات على سوء معاملة الشرطة الأميركية للسّود (تقاطع صريح ودال مع "بطاقة بريدية في زمن كورونا")، من خلال شاشة التلفاز، تحت النظرات الحائرة لمايا.
أمّا عادل الفاضلي، فيُجازف في "سيناريو سيّئ" بتبنّي شفافية مطلقة: يُفصح عن نيات الإخراج وشكوكه منذ البداية، ويؤدي بنفسه دور الأب، وصغيره إسماعيل دور الطفل، بتبئيرٍ مرآوي: تصوير فيلمٍ داخل الفيلم، تتخلّله لقطات لإسماعيل الذي يُفكّر بصوت عالٍ في مدى نجاعة اختيار سيناريو "سينما المؤلّف"، بـ"إيقاعها البطيء" و"شحّ حواراتها" و"حزن قصصها" (بحسب تصوّره)، مُقارنةً بالأفلام الكوميدية التي يُفضّلها، لأنّها تبحث عن جانب "الهزل في موضوع الحجر، رغم خطورته".
بقدر ما يمنح هذا الجانب، المغرق في الشخصانية، الفيلمَ جاذبيةً لا يخطئها القلب، يُشكّل ـ في الوقت نفسه ـ الحاجز الذي يحدّ من تحليقه في آفاق أرحب وأجمل، حين تفصح حبكة مرض الأب عن محدوديتها. هناك تأسّفٌ على أنّ فكرة سينما التحريك الرائعة، مع شخصية الأمير الصغير وقراءة لمقتطفٍ من القصّة المشهورة لسانت أكزوبيري، أتت متأخّرة. ربما كان من شأنها أنْ تُشكّل وسيلة مثلى للتّسامي بحكي الفيلم، لو اتُّخذت كزاوية تناولٍ، واستُثمِرَت تقاطعاتها، الفنية والسردية، مع الوحدة والاغتراب الناجمين عن الحجر. تنويهٌ خاص بالحضور الموفَّق والسّخي للصغير إسماعيل الفاضلي.
المونتاج وسحره
يخلق ياسين ماركو موروكو، بفضل سحر مونتاج "رأيتُ أركاديا" (فين بانتلك أركاديا)، فضاءً متخيّلاً، يجمع شتات الأهل والأصدقاء المتفرّقين بين دول العالم، وفق استعارة المدينة الأسطوريّة "أركاديا". فضاء يوتوبيا العيش الخيّر والسعيد بين مكوّنات الطبيعة في المخيال الإغريقي. فيلم كورالي وسخيّ، يقطّر الإنسانية من لحظات التعاضد والتضامن وتعدّد الأصوات والوضعيات واللغات ووجهات النظر حول الحجر، وما يفرضه هذا الأخير من تحدّيات سياسية واجتماعية.
فهناك من يرى أنّ كلّ ما يحصل إنذارٌ بعالمٍ غير رحيم، قوامه الخوف والتحكّم وانتفاء الأواصر الاجتماعية، ومن يعتبره فرصةً نادرة لإعادة ترتيب الأوراق وعكس سيرورة عالمٍ لم يكن يسير إطلاقاً في الإتجاه الصحيح قبل اندلاع الأزمة. نقاشٌ عن بعد، يؤدي فيه المخرج نفسه دور محامي الشيطان، نوعاً ما، مُذكّراً كلّ مرّة بدقّة المرحلة وطابعها المصيري، مع ميل بارز إلى الدفاع عن الطبيعة (بعض لقطات الأشجار تقرِن الفيلم بـ"شجر" بن السعيدي).
إذا استفاد الفيلم من قدرة المونتاج على خلق فضاء نظري مُتجذّر في السينما، ينبذ الحدود ويروّح من الاغتراب، فإنّه ـ للأسف ـ لم يوظّف تأثيراً آخر للمونتاج، يتمثّل بالقصّ والتشذيب، للذهاب إلى لبّ الأشياء، والحدّ من سطوة الحوارات وتكرار معانيها. ولعلّ أبرز دليل على هذا، اللقطات الرائعة للعيش الحميمي (الرضيع الذي يحبو نحو الضوء المبهر)، والضائعة وسط سيل الخطابات التي لا تنتهي. لكنّ الرؤية النقدية الصريحة، والنّفس الطّموح الذي يعبر "رأيت أركاديا"، يمنحانه عمقاً إنسانياً وبُعداً ملتزماً، يشفعان عن هناته.