40 عاماً في شارع واحد: خاتمةٌ قاهِرة من الخيبات

02 يونيو 2023
مدخل سينما "برودواي" في الحمرا (2020): احتضارٌ مديد (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -

 

في أيامٍ كهذه، قبل 40 عاماً، أبدأ رحلتي مع شارع الحمرا البيروتي. يحدث هذا في بدايات عام 1983. اللحظة "مهمّة"، فـ"وهم" انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية غالبٌ، والطرقات بين البيروتين مفتوحة، والرغبة في استعادة حياةٍ "طبيعية"، حاصلة قبل "مقتلة" بوسطة عين الرمانة (13 إبريل/ نيسان 1975)، طاغية، والهوس بالـ"نسيان" مستفحل، والتوق إلى "خلاصٍ"، أيّاً يكن شكله ومضمونه، أقوى من أنْ يحرِّض المرء على وقوفٍ، ولو مؤقّت، أمام مرآة ذاته وروحه.

40 عاماً. هذه حياة. شارع الحمرا هاجسٌ قبل التعرّف إليه. "شوقٌ" (ملتبس) إلى "شيءٍ" غير معروف سابقاً، إلّا عبر كلامٍ عنه، حسنٌ، يُقال بشغف أهلٍ وأقارب له. شارع يمتدّ من بقعة جغرافية صغيرة إلى ما يُفترض به أنْ يكون وطناً، أو أنْ يكون شبيهاً بـ"قلب" المدينة، كبديلٍ عن ساحة البرج/ الشهداء/ وسط البلد، يتحوّل، شيئاً فشيئاً، إلى صليبٍ يقتل أناساً، ويعكس مرارة عيشٍ، ويُقدّم أفضل صورة سلبيّة عن وطن معطوب، وبلدٍ منهار، وأمّة (أيكون/ كان لبنان، ذات يوم، أمّة، فعلاً؟) مشوّهة.

شارع يمتلك 12 صالة سينمائية (بعضها القليل في شوارع متفرّعة منه، لكنّ هذا البعض قريبٌ جداً إليه)، يفقدها ببطء من يحتضر طويلاً من دون أنْ يموت. شارع يمتلك مقاهي ومكتبات وأمكنة سهر، وإنْ تكن قليلة، وحياة تتكامل ليلاً ونهاراً، وتعيش حرباً ومعارك، وتواجه محتلاً وتطرده، وتقول إنّ هناك حيّزاً لتناحر بين إخوة سلاح، ومكاناً ليوميات أفرادٍ غير منتمين إلى جهةٍ/ طائفة/ مذهبٍ واحد، وهذا كلّه يتبخّر في أعوام لاحقة، وأزمة الاقتصاد/ المجتمع، المستفحلة عشية "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) بقليل، تقضي عليه نهائياً، محوّلةً إياه إلى وباء أخطر وأبشع وأقسى من كورونا، ومن أوبئة الحياة والتاريخ كلّها.

مُثيرٌ شارع الحمرا لكتابات غير منتهية، رغم خرابٍ يكاد يكون أنقاضاً. مُثيرٌ لحنينٍ إلى صالات وحياة وعيش، رغم الفراغ الضاجّ بقهرٍ وغضب وخيبة وانكسار وموت. مُثيرٌ لاستعادة مليئة بدمع مجفّف، وابتسامات مقتولة، وذاكرة ملوّثة بغباء البقاء فيه طويلاً. مُثيرٌ لحلمٍ بخلاصٍ دائم من حروب ومعارك، قبل أنْ يُقضَى على حلمٍ كهذا، ليُتاح للكوابيس أنْ تحتلّ أمكنة وفضاءات وأرواحاً، يُصدِّق أصحابها أنّهم/ أنهنّ أحياء. مُثيرٌ لتذكّر أنّه بلاتوه لأفلامٍ وحكايات، قبل أنْ يعشّش فيه النبات البرّي، الذي يحجب صورته القديمة، فالصورة الآنيّة معتمةٌ لشدّة خوائه وانعدام نبضه.

40 عاماً. هذه حياة تتدحرج إلى أسفل هاوية، بعد سرقة كلّ فرحٍ وحبّ وتسكّع وعمل وسهرٍ واختبارات. أعوام حربٍ، يُقال إنّ نهايتها (الناقصة والمزوَّرة) حاصلةٌ في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990، تمنح (الأعوام) فسحةً لمعاينة بيئة والتعرّف إلى ثقافة ومهنة، وإلى ناس البيئة والثقافة والمهنة، في مكاتب ومقاهٍ وأمكنة سهر، والغلبة للمقاهي وأمكنة السهر، فهذه نبض الشارع قبل أنْ يصمتا (النبض والشارع معاً) نهائياً.

تقول حكايةٌ إنّ صالات السينما في شارع الحمرا البيروتي تُنشَأ في منتصف خمسينيات القرن الـ20. صالة تلو أخرى، وشركة توزيع تلو أخرى، ونزاعات مديدة، بوسائل مختلفة، لجذب مشاهدين ومشاهدات. صالات تتنوّع اهتماماتها الفنية والدرامية والجمالية، وبعضها مفتونٌ بسينما "نضالية"، وأبو عمار يحضر ويحمي بعض صانعيها من انغلاق عقليّ وانفعالي إزاء "الآخر"، وبعض الصالات مسرحٌ أيضاً (بيكاديلي)، وأكشاك صحفٍ ومجلات منتشرةٌ هنا وهناك، وبينها مجلات سينمائية تأتي، ولو متأخرة قليلاً، من مدن أحلام السينما وصناعتها في أوروبا وأميركا.

 

 

40 عاماً تنتهي بخسارة مدوّية في ذاتٍ توّاقة، حينها، إلى حياة المقاهي والتسكّع والسهر، لاكتساب معنى أجمل للعيش، يترافق واكتساب وعي ومعرفة وثقافة ومهنة. صالات تفتح أبوابها، رغم حربٍ في محيطها، ومعارك تندلع بين رفاق السلاح، وتبقى غير مكترثةٍ بهم وبحروبهم ومعاركهم. صالات تعرض أفلاماً، لبعضها شغف الإبداع والبوح، ولبعضها الآخر حِرفة الصناعة/ التجارة. شارعٌ يُتيح تواصلاً مع موزّعي تلك الأفلام، المُقيمين فيه، لمعرفة شيءٍ من أصول مهنة التوزيع، وإدارة الصالات، وفهم نبض المُشاهد/ المشاهدة ورغباتهما السينمائية. أناسٌ يُرافقوني في تلك المرحلة، وقلّة منهم/ منهنّ معنية بالسينما، ما يفتح أمامي أبواب مهنتين: (فهم) التوزيع و(اشتغال في) النقد السينمائيين.

40 عاماً. أي عمرٍ هذا؟ أي حياة، وأي سينما، وأي نهاية؟ لا صالة واحدة تفتح أبوابها في زمن "سلم" عفن، ولا مقهى يُغري بارتياده، ولا ضوء يشعّ من فضائه، ولا مهنة تُمارس فيه، ولا سهر يُفيد ويُمتع، إلّا نادراً، وللحظات تمرّ سريعاً، وبقسوة.

أي فيلمٍ يُمكنه تحويل هذا إلى "حياة" أفضل، ربما؟ أي مخرج/ مخرجة يغامر في معاينة موتٍ كهذا؟ أي صالة تروي شيئاً من سيرةٍ مقتولة، وذاكرة مقهورة، ويومياتٍ مأسورةٍ بانتظار لحظة المغادرة، التي لا عودة بعدها؟ كلّ حياة تصلح لصُنع فيلم. كلّ موت أيضاً. كلّ احتضار، وإنْ يبقى الاحتضار طويلاً، وهذا أقسى من موتٍ وحياة.

لكنْ، من سيصنع هذا الفيلم؟ من سيحمل تلك الكاميرا، ليروي حكاية شارعٍ، أمضي فيه 40 عاماً، تضيع هباءً، ومن دون جدوى، وأبقى عالقاً فيه، إذْ "لا يوجد ما هو مؤلم أكثر من أنْ تكون سجين علاقة أو سجين مكان، لا يُمكنك أنْ تعيش خارجهما" (يسري نصرالله، محاورات أحمد شوقي، مطبوعات مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، 2017)؟

المساهمون