تتعدّد أشكال البحث عن الهوية الفردية، بقدر تنوّع البشر واختلافاتهم، وفهمهم للهوية نفسها. أشكال البحث هذه تكون، لدى البعض، مفترق طريق، أو نقطة تحوّل جذريّ في مساره الحياتيّ. لأهمية هذه القضية المحورية، وصعوبتها وتعقيداتها، تتعدّد الرؤى والمعالجات والطروحات الفنية.
هذا واضحٌ في 3 أفلام وثائقية جديدة، تمحورت حول البحث عن الهوية، وفازت بأهم جوائز الدورة الـ25 (2 ـ 12 مارس/آذار 2023) لـ"مهرجان سالونيك الدولي للأفلام الوثائقية".
الهوية الجنسية
في مسابقة الأفلام الدولية، فاز "من لست أنا"، للرومانية توندي سكوفران، بـ"جائزة ألكسندر الفضي"، التي تناولت فيه محظورات كثيرة، لسرد تجربة شخصين من مزدوجي الجنس: ملكة جمال سابقة، وناشط حقوقي. كلّ واحد منهما وُلد، ولديه عضوا ذكر وأنثى في جسم واحد. النتيجة: فيلمٌ حميم وصادق وعميق، عن أشخاص ثنائيي الجنس، الذين، وفقاً للإحصاءات الدولية، يبلغ عددهم 2 بالمائة من سكان العالم.
Intersex مصطلح شامل، يشير إلى اختلافاتٍ كثيرة، تؤثّر على الأعضاء التناسلية والهرمونات، خاصة الـ"تستوستيرون" والـ"كروموسومات"، وشكل الأعضاء الجنسية. تظهر هذه الاختلافات، أحياناً، عند الولادة، وأحياناً أخرى في مرحلة البلوغ.
في 5 أعوام، وثّقت سكوفران أحداث فيلمها، الحاصلة في جنوب أفريقيا: ملكة الجمال شارون روز كومالو، والناشط الحقوقي ديماكاتسو سيبيدي. تعاني شارون أزمة هوية بعد اكتشافها أنها خنثى. إنها بحاجة إلى توجيه ودعم من شخص مثلها. ديماكاتسو سيكون الوحيد الموجود لمساعدتها. إنّه عكس حالتها تماماً، فهو ذكرٌ في جسد أثنى. القصّتان المتوازيتان للبطلين توضحان نضالهما من أجل العيش والتأقلم، في عالم مقسّم بين الذكور والإناث.
يتركّز السرد على معاينة الصعوبات الخاصة بهما، والوقوف على مختلف التحدّيات، الطبية والمجتمعية والشخصية، وكيفية مواجهتهما الأمور بعمق ووعي، وتحمّل نقاط ضعفهما، وصولاً إلى الهوية المدفونة فيهما، بسبب الصدمة التي تعرّضا لها. يتابع الفيلم نضالهما من أجل قبول نفسيهما، في عالمٍ ينظر إليهما كـ"شيء شاذ"، من دون أنْ يطرح قضية الهوية فقط، لتوسّعه أكثر في مناقشة مسألة الانقسام/التقسيم بين ذكور وإناث، وبيض وسود، وأغنياء وفقراء، وغيرها.
تثير غالبية مشاهد "من لست أنا" أسئلة ضخمة كثيرة: ما مفهوم الجنس/الهوية الجنسية، ومن يُحدّده؟ كيف يُمكن لثنائيي الجنس العيش والتكيف والعمل في مجتمعات رافضة أو نمطية، أو ذات معايير بالية؟ يبرز هذا عند بحث ديماكاتسو عن عمل، من دون أن يحصل عليه بسبب طبيعته؛ وعندما يُخبره صاحب مصنع باستحالة الأمر، لأنّه لا يعرف في أي خانة/تصنيف يضعه، أو يتعامل معه: رجل أو امرأة. ثم يسأله، بجدّية: أيّ حمام ستدخل، الرجال أو النساء؟
بذكاءٍ بالغ، اختارت سكوفران بطليها من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين: شارون ناجحة وعاملة وشديدة الثراء وجميلة، وديماكاتسو محبط وعاطل عن العمل وعادي الجمال، ولا يملك شيئاً. للفرق الطبقي الواضح بينهما مدلوله، لكنّه يتعطل ويختفي تماماً، عندما تُطرح هويتهما الجنسية، وتعامل المجتمع والأقرباء معهما. في الفيلم احتفاءٌ صادق، وفهم عميق وإيجابي ومؤثّر لحياة ثنائيي الجنس، وجرأة في طرح موضوع شائك ومهم وخطر، نادراً ما تتناوله السينما، مقارنة بالعدد المتزايد، أخيراً، عن قصص المثليين والمتحوّلين جنسياً.
عن الكهنوت ومتطلّباته
ينقلنا "الصوت"، أول وثائقي للبولندية دومينيكا مونتين بانيكوف (جائزة "ألكسندر الذهبي" في مسابقة "الوافدون الجدد")، إلى عالمٍ آخر منعزل، للمبتدئين اليسوعيين في "غدينيا" (شمالي بولندا). يتطلب التحضير والتأهيل للكهنوت، في عامين، تركيزاً عميقاً على النَفْس، ونظرة فاحصة على ذاتٍ، ربما لا يجدها المرء أبداً. لذا، أول ما يُطلب من الوافدين الجدد، عند وصولهم إلى مقرّ "الجزويت"، تسليم أجهزتهم الإلكترونية، وأدوات اتصال تجعلهم على تواصل مع العالم الخارجي، إذ يجب إيقاف الإشعارات المقبلة من خارج جدران المقرّ، للتركيز على أصواتهم الداخلية، والتوحّد مع أنفسهم، في جلساتٍ فلسفية طويلة، عن التأمّل الذاتي، ووحدة العقل والروح.
ليس الفيلم نظرة فضولية على مرحلة روتينية/إجرائية لـ14 رجلاً مبتدئين في الرهبانية اليسوعية، على وشك التخلّي عن العالم المادي، لتكريس أنفسهم للحياة الأبدية، إذ إنّه يعاين جوهر الأمر، عبر الملاحظة المستمرة لهم ولمكابداتهم الروحية والنفسية، ورصد مراحل الزهد والتقشف والتأمّل الذاتي، والنظرات الحائرة، والأفكار المشتّتة والمتصارعة، في مرحلة فارقة في حياتهم، نادراً ما رصدتها السينما.
يُصوَّر المبتدئون بشكل فردي تارة، وكجزء من المجموعة أيضاً، أو في تفاصيل من ماضيهم، مع التركيز على دوافعهم للانضمام إلى هذا المجتمع، وإنْ تكن الحياة الدينية تناسبهم أم لا. تتابعهم الكاميرا في مهامهم اليومية في المقرّ، والوقت الذي يمضونه في المستشفى رفقة مرضى كبار السنّ، وتدريباتهم واختباراتهم وتمارينهم، لتحقيق النضج الروحي.
يُبدي الأشخاص، المتمكّنون من التواصل مع أصواتهم الداخلية، استعدادهم لتكريس أنفسهم لحياة دينية، بغض النظر عن حقيقة أصواتهم المتردّدة في محادثاتهم الخاصة بعضهم مع بعض، التي يعبّرون فيها عن شكوكٍ حول التدريب المستمر، ومسار الكهانة عامة. في النهاية، يتساءل المرء عن مدى صدقهم وثباتهم وحزمهم، مقارنة بأقرانهم الذين قرّروا في النهاية، بشجاعة، إعلانهم رفض الأمر، ومغادرة المقر إلى رحابة الحياة الطبيعية في الخارج.
مرتزقة بلا عمل
بعد انتشار حوادث القرصنة قبالة سواحل الصومال تحديداً، حقّقت شركات التأمين البحري ثروات هائلة، بتوفيرها نوعاً جديداً من الأعمال: الأمن البحري. استأجرت السفنُ المارة في المناطق الخطرة مرتزقةً ذوي مهارات احترافية قتالية عالية الجودة، تابعين لهذه الشركات، لحمايتها من القراصنة. الوظيفة مغرية جداً، بفضل رواتب مُجزية للغاية. لكنْ، بعد تراجع هجمات القراصنة بشكل كبير منذ بداية القرن، يواجه المرتزقة مشكلة جديدة: ندرة عمل، ما وضعهم أمام مفترق طرق.
يرصد "نوبة حراسة"، لليوناني غريغوريس رينتِس (جائزة "ألكسندر الفضي" في مسابقة "الأفلام الواعدة")، 3 رجال مرتزقة، في مراحل مختلفة من حياتهم المهنية. يمضون الجزء الأكبر من وقتهم في انتظار مواجهات لا تحدث. الأول مُبتدئ يدعى يورغوس، شابٌ يتّسم بالمرح والانطلاق والحرية. في البداية، يظهر مع والدته، التي تودّعه مُحتضنةً إياه في لقطة ثابتة طويلة مؤثّرة. يمضي ليالي طويلة عبثية، مليئة بالحيرة، في بلدة في سريلانكا، منتظراً مهمته الأولى لحراسة سفينة تجوب العالم.
الثاني كوستا، صاحب اللياقة العالية والخبرة، في منتصف مسيرته المهنية. يظهر في عمله على متن سفينة، ستدخل المياه الخطرة. يفتقد زوجته وأصدقاءه. تمرّ أيامٌ مملّة لا نهاية لها، تقطعها تدريبات وهمية ضد قراصنة غير موجودين، يُجنّد فيها بعض أفراد الطاقم لتأدية دور ضحايا القراصنة المقتولين. وذلك على ظهر سفينة محاطة بأسلاك شائكة، تبدو صورة مصغّرة لمعسكر حربي.
الثالث فكتور، أكبر سنّاً. يشير إلى بلوغه نهاية حياته المهنية. فبعد مسيرة طويلة من الحراسة، يقرر يائساً رفع الراية، مؤكّداً رغبته في ترك حياة البحر، والعمل على الأرض، في وظيفة مكتبية في الشركة، وتمضية الوقت مع عائلته، وإجراء جراحة ضرورية في عينه. الأمور ليست سهلة ويسيرة كما يرغب، إذ نراه في النهاية يُدرّب مُجنّدين جدداً لصالح الشركة.
بمتابعته هؤلاء الحرّاس البحريين، أو المرتزقة، في مراحل حياتية مختلفة في البرّ والبحر، في 3 فصول خاصة بكل واحد منهم، يتناول رينتِس دورهم كحماة، لا كمرتزقة حربٍ أشرار، بشيءٍ من التأمّل والتعاطف. يُبيّن المِحَن، المهنية والمادية والوجودية، التي يكابدونها، في ظلّ طقوس تدريب عبثية سخيفة، كوميدية بعض الشيء، وملل مُطبق، وانتظار أبدي للقيام بلا شيء. قبل ذلك كله، شعور دائم بضرورة الاستعداد والجهوزية التامة، انتظاراً لـ"مجيء غودو".
يوفر غريغوريس رينتِس معلومات قليلة عن المهنة ومصاعبها ومخاطرها، مكتفياً بانطباعات غير عميقة، ترصد المفردات اليومية للشخصيات، ولا تخلو من لقطات جمالية مفاجئة. ورغم تنوّع الأساليب التي يستخدمها، فإنّ تقنية الكاميرا الخاصة به ثابتة دائماً، إذ يُصوَّر الرجال في لقطات مقرّبة، غالباً، وأحياناً يكونون خارج العمق البؤري للعدسة.
إجمالاً، يتمحور "نوبة حراسة" حول الاختطاف والقرصنة والقتال والموت، لكنْ من دون حدوث هذا. الفيلم وحياة أبطاله "فيلم أكشن" بانتظار الحدث.